5 وثائقيات على "أفلامنا": "إعلان حربٍ" يؤدّي إلى "نهاية العالم"

5 وثائقيات قصيرة على "أفلامنا": "إعلان حربٍ" يؤدّي إلى "نهاية العالم"

09 اغسطس 2021
مرفأ بيروت بعد انفجاره: كيف نُصوِّر الكارثة؟ (فرانس برس/ Getty)
+ الخط -

"إلى أين يذهب المرء بعد نهاية العالم؟"، تسأل الراوية (سرد: زهور محمد) في "زهور زرقاء عديمة الرائحة تستيقظ قبل أوانها" (6 دقائق) لبانوس إبراهاميان. "كم أنّها بشعةٌ نهاية العالم"، يذكر راوي "ورشة" (6 دقائق) لجان كلود بولس. "4 آب كان إعلان حرب"، يقول إيلي داغر في "إعلان حرب" (6 دقائق)، بينما تلتقط ساره قصقص تفاصيل مختلفة، صوتاً وكلاماً وارتباك صُور ونفسياتٍ ومشاعر، لتشير إلى أنّ الحاصلَ "اضطرابٌ" (6 دقائق). يجهد جوزيف لإيراد اسم والدته في لائحة قتلى انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، ووضع صورتها بين صُورهم: "يُقال إنّ أكثر من 200 شخص قتلوا جرّاء الانفجار، ولكنْ ليس هناك، حتى اللحظة، لائحة رسمية نهائية للضحايا"، كما في نهاية "مينارفا" (7 دقائق) للوسيان بورجيلي.

5 أفلام وثائقية قصيرة، مُنجزة مؤخّراً في إطار مشروع "بيروت... آب 2021" (المنتجة: نرمين حداد. إدارة الإنتاج: أنطوني زوين، مع "بيروت دي سي" وDanish – Arab Partnership Programme وIMS، بالشراكة مع "المفكرة القانونية". العرض على المنصّة اللبنانية "أفلامنا" لغاية 23 أغسطس/ آب 2021). 5 أفلام منبثقةٌ من فعل جُرميّ، يحفر عميقاً في أرواح وأجسادٍ، ويصنع من اللحظة انكساراً وخيبات. انفجار يقتل ويجرح ويدمِّر، ويُصيب نفوساً مقهورة ومُتعَبة، في بلدٍ يُعاني أزماتٍ خانقة، سيكون الفعل الجُرميّ هذا أسوأها وأكثرها إيلاماً وتفكيكاً، وأقساها لشدّة متاهاتها المتأتية من مشهدٍ يتفوّق على صورة "القيامة الآن"، كأنّه يكتفي بلحظة الموت لا أكثر.

أساس المشروع يرتكز على كيفية تصوير تلك اللحظة، وتداعياتها. التبسيط هذا غير لاغٍ أهمية السؤال العام (كيف نُصوّر الكارثة؟)، ولا إمكانية البحث في العلاقة القائمة بين مخرج/ مخرجة والحدث بحدّ ذاته، وبما يسبقه ويلحق به. الانفجار جزءٌ من مسار انحداريّ لبلدٍ وناسه، في سردية البحث عن خلاصٍ، أو في العيش في الهاوية. الصُور المبثوثة في الأفلام الـ5 تعكس خراباً مدويّاً في أناسٍ يصنعون الأفلام، هم الذين يعيشون الكارثة كآخرين كُثر. يبدون كأنّهم يقفون أمام مرايا، كتلك التي يلتقطها جان كلود بولس، أو كتلك التي تصنعها ساره قصقص في احتيالٍ بصري على وقائع ولحظاتٍ. يسأل بولس: "كيف عدتُ إلى هذا البيت؟ إلى هذا الحيّ؟ ما الذي لا أزال أفعله هنا" (بالمحكية اللبنانية). قصقص تختار تعابير عددٍ من الشباب ومشاعرهم، فتتداخل الأصوات كما الصُور، في لوحةٍ بصرية تختزل شيئاً من أحوالٍ وانفعالاتٍ.

 

 

السابق على الانفجار يحضر في كلماتٍ مختلفة، من دون الإعلان المباشر عن ذاك التاريخ المليء بحروبٍ ومنعطفات خطرة وتبدّلات أخطر: "جريمة إبادة طويلة المدى بحقّ الشعب، أخلاقياً مالياً جسدياً، نتيجة سنوات من الإجرام والفساد والنفاق والتواطؤ"، يقول إيلي داغر. العالم ما بعد نهايته "أنظف"، لكنّ القائلة بهذا غير قادرة على أنْ تشمّ "رائحة نهاية العالم" (إبراهاميان). تقول إنّ أحداً يطلب منها إنجاز فيلمٍ عن "نهاية العالم". تتساءل إنْ يُفترض بالفيلم أنْ ينتمي إلى نوع "الخيال العلمي" أو "الديستوبيا". لكنّها تصنع، في النهاية، فيلماً وثائقياً. يُطلَب منها أنْ تكون مدّته قصيرة، وتُقرّ أنّ هذا يحصل فعلياً "لأنّي لا أملك شيئاً لأقوله عن نهاية العالم"، إذْ إنّ الأقوال عنها كثيرة: "لم يعد هناك أي شيءٍ "بيفْرِق" (بالمحكية اللبنانية) بعد نهاية العالم. كلّ واحدٍ يعيش على وقتٍ مستعار. كلّ واحدٍ لم يعد لديه إلا خياراته الشخصية التافهة"، باستثناء "الأغنياء، الذين لديهم أبراجهم التي تحوم فوق المدينة، والتي اختبأوا فيها عندما كان العالم ينتهي".

جماليات الصُور المُعبّرة عن أنماط الألم والقسوة والخراب والموت والانهيار والخيبة والضياع والقرف والاستسلام، بالإضافة إلى شيءٍ من رغبة في خلاصٍ لكنّه مفقود، تلك الجماليات تتساوى مع كلام يُقال، في اختبارٍ يُراد له أنْ تتكامل فيه ثنائية البصر والسمع. في الأفلام، لحظات تبدو كأنّ حاسة الشمّ تفعل فعلها، ليس لأنّ هناك زهوراً لا رائحة لها، وليس لأنّ هناك ورشة مليئة بالاضطراب، وليس لأنّ هناك صُوراً مركونة في جوهر الدماغ والمُتخيّل والانفعال في ذاتٍ فردية؛ بل لأنّ قوّة الصُور المختارة، معطوفة على نبضٍ قاسٍ في كلامٍ يُقال، تُحرِّض على استخدام الحواس كلّها (لا حاسة الشمّ وحدها) في مُشاهدةٍ، يُحذِّر أكثر من فيلمٍ من قسوة ما فيه أحياناً.

هذه كارثة. يسأل السينمائيّ اللبناني باسم فيّاض، في مقالة له بعنوان "عن مساحة الكارثة والتعبير" (منشور على موقع منصّة "أفلامنا"، كتقديمٍ للأفلام والبرنامج والمشروع. aflamuna.online): "كيف نُصوِّر الكارثة؟". يُشير إلى أنّ مساحة الكارثة "غير مادية"، بل "أوسع بكثيرٍ من مساحة الانفجار المادية"، فالحاصل قبل الانفجار الكبير بدقائق يُتيح تصوير الكارثة، وبثّها في مواقع مختلفة، ما يسمح لمئات آلاف اللبنانيين واللبنانيات (وآخرين أيضاً) مُشاهدتها مراراً، وهذا كافٍ لصدمةٍ وقهرٍ وقلقٍ وخوفٍ وتساؤلات معلّقة، لأناسٍ بعيدين عن مكان الانفجار.

أفلامٌ كهذه تُشاهَد. أيّ كتابة عنها تُصاب بعطبٍ يحول دون بلوغ ما يليق بصُورها. يحدث هذا أحياناً. في صنيع بانوس أبراهاميان، صُوراً وكلمات، ما يعكس هزيمةً وقهراً أقوى من أي وصفٍ. في "اضطراب" ساره قصقص ما يختزل حالاتٍ تسود عالم ما بعد النهاية، وأمام تحدّياتٍ جديدة، يصعب (أو ربما "يستحيل") مقارعتها وغلبتها. إيلي داغر يُضيف على الاختزال ما يُلخّص الحكاية كلّها: هذه حربٌ، والانفجار إعلانٌ عنها. جان كلود بولس يتجوّل في الجميّزة (حيّ بيروتي قريب جداً من مرفأ المدينة) ويطرح تساؤلاته وتأمّلاته، بما فيها من قلق وانعدام أفق وقهر. لوسيان بورجيلي يوثِّق، بهدوء وبساطة، حكاية ابنٍ يريد حقّاً مهدوراً، كأي حقّ مهدور في بلد الانكسارات والموت.

"الثابت الوحيد الآن أنّ التعبير عن الكارثة يُشبه إلى حدّ كبير الكارثة نفسها"، يكتب باسم فيّاض. هذا كافٍ لشدّة واقعيّته.

المساهمون