صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (3)

صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (3)

09 ابريل 2019
+ الخط -
عودة رسائل أبنائنا في الخارج
بعد نهاية حكم عبد جمال عبد الناصر، أفلتت الدولة قبضتها على الوسط السينمائي بشكل ملحوظ، سواءً بترسيخ تخليها عن الإنتاج السينمائي، أو بتخفيفها القيود الرقابية على الأفلام، تماشياً مع دعوة الرئيس الجديد أنور السادات إلى الانفتاح السياسي والاقتصادي، وتوسيعها لهامش الحركة الذي يعمل فيه السينمائيون على المستوى السياسي والاجتماعي والأخلاقي أيضاً، ولذلك كان طبيعياً أن تعود تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" إلى الساحة من نفس الباب الذي جاءت منه أول مرة: باب "أبناء مصر بالخارج الغيورين على سمعة بلادهم". حدث ذلك بالتحديد في عام 1976، حين شن بعض أعضاء مجلس الشعب حملة قوية على المخرج سعيد مرزوق بسبب فيلمه (المذنبون)، الذي اتهموه أنه يسيئ لسمعة مصر ويحرج العاملين المصريين بالخارج أمام العرب الذين يعملون في بلادهم، واستند "الأعضاء الموقرون" في حملتهم على رسائل جاءتهم من " الكثير من أبناء مصر بالخارج"، ونجح ضغط النواب في دفع وزير الثقافة وقتها لتشكيل لجنة سباعية للبحث في منع الفيلم بعد أكثر من شهرين من عرضه عرضاً عاماً، ولم يخذل أعضاء اللجنة السباعية زملاءهم تحت القبة، فحذفوا عددا كبيراً من مشاهد الفيلم، وهو ما أدى ـ كما يقول الناقد السينمائي علي أبو شادي ورئيس جهاز الرقابة لاحقاً ـ "إلى أن يعيش الرقباء الذين أجازوا الفيلم في حالة هلع دائم من التصريح بعرض أي فيلم يحمل إشارة ولو طفيفة لأي نوع من الفساد، وربما كان ذلك هو الهدف الحقيقي من تلك المعركة المفتعلة مع الفيلم، خصوصاً أن البلاد كانت مقدمة على مرحلة الفساد الأعظم الذي صاحب سياسة الانفتاح السعيد في منتصف السبعينات".

ومنذ تلك اللحظة التي عوقب فيها فيلم (المذنبون) بتهمة الإساءة إلى سمعة مصر، لم تتوقف تلك التهمة عن ملاحقة صناع الأفلام، حتى بعد أن تغيرت قواعد اللعبة السياسية في مطلع الثمانينات بعد تولي حسني مبارك الحكم، حيث لم يعد النظام الحاكم يفضل التوسع في استخدام تهم العيب في ذات رئيس الجمهورية وزعزعة السلام الاجتماعي وتهديد الوحدة الوطنية، وغيرها من متلازمات قانون العيب الساداتي، ومع ذلك فقد ظلت تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" صامدة وعابرة للسنين، وكان من أوائل الأفلام التي تعرضت لهذه التهمة فيلم (درب الهوى) للمخرج حسام الدين مصطفى الذي كانت المفارقة أن أول من شن عليه حملة صحفية شرسة كان سينمائياً من رموز من دأبت الصحف على تسميته بزمن الفن الجميل، هو الكاتب والزجال ومسئول الدعاية السينمائية لعدد من الأفلام الشهيرة في تاريخ السينما عبد الله أحمد عبد الله الشهير بلقب (ميكي ماوس) والذي كتب موثقاً لدوره في منع الفيلم قائلاً بكل فخر: "أحفظ لنفسي حقا تاريخيا هو أنني بتوجيه من الله كنت أول من هاجم فيلم درب الهوى في جريدة المساء يوم 31 يوليو 1983 وتبعني زملائي بعد أن تنبهوا إلى هذا المنزلق المنحدر إلى هاوية الضياع الذي آذن به هذا الفيلم وشقيقه خمسة باب الذين يدخلان في باب الفسق السينمائي، وكان نتيجة الحملة التي بدأتها أن الوزير محمد عبد الحميد رضوان اضطر إلى مصادرته ثم مصادرة شقيقه بعد أن سبقني غيري إلى التنبيه إلى سوءاته"، وكان يعني بـ "شقيقه" فيلم (خمسة باب) للمخرج نادر جلال والذي تم منعه في نفس العام، ليبقى الفيلمان ممنوعين من العرض، ويخوض منتجاهما معركة قضائية طويلة، انتهت بإجازة عرض الفيلمين في مطلع التسعينات، بعد أن شاهدهما الكثيرون على أشرطة الفيديو القادمة من خارج مصر.


الدويقة والأفوكاتو
في عام 1984 تعرض المخرج التسجيلي مختار أحمد للاتهام بالإساءة إلى سمعة مصر، حين بدأ عرض فيلمه القصير (إنقاذ) في مهرجان سينمائي دولي بمدينة أسوان في حضور وزير الثقافة ، وحين بدأ عرض الفيلم الذي يصور الحياة في أحد مساكن الإيواء في منطقة الدويقة بالقاهرة، دوى صوت أحد الصحفيين في قاعة العرض صارخاً: "ولعوا النور، أوقف العرض يا سيادة الوزير، ده واحد بيشوه سمعة مصر"، ليتوقف عرض الفيلم ويعتصم بعض الفنانين في بهو الفندق الذي أقيم به المهرجان مدافعين عن الفيلم الذي قال مخرجه للكاتبة منى فوزي في مجلة صباح الخير "أنا لم آت بشيء غير الواقع، ولم أقدم على هذا الفيلم إلا للتنبيه إلى أن هناك خطراً فظيعاً قادماً"، وهو ما جعل منى فوزي تذكر بما جرى قبلها للمخرج سامي السلاموني حين تم منع عرض فيلمه (الصباح) في التلفزيون لأنه أظهر المصريين وهم يأكلون الفول في الصباح بصورة تسيء إلى سمعة مصر، وما جرى لمسرحية (العسل عسل والبصل بصل) للمخرج سمير العصفوري في مهرجان قرطاج المسرحي الدولي عام 1984، "حين طالب بعض الصحفيين بالتحقيق في ملابسات خروج المسرحية من البلد، ليشكل وزير الثقافة لجنة خرجت بقرار ينص على مراقبة المسرحيات قبل سفرها إلى مهرجانات خارجية حتى لا تسيء لسمعة مصر".

وفي نفس العام وبالتحديد في 3 إبريل 1984 أفرد الكاتب وجيه أبو ذكري مساحة كبيرة من يومياته بصحيفة (الأخبار) لرسالة قال إنها جاءته من "الصديق المحاسب سليمان الغمراوي من الكويت"، وجاء في نصها ما يلي: " شاهدت فيلم الأفوكاتو وترحمت على جيل الرواد في صناعة السينما، وبودي أن أسألك عدة أسئلة محيرة: هل زوجاتنا تخلع ملابسها فور دخول أزواجهن البيت أو فور مشاهدة زوجها في أي مكان وزمان؟ وهل الزوجة المصرية لا اهتمام لها في الحياة إلا الجنس؟ وهل كل شوارعنا حفر ومطبات ومجاري ومستنقعات؟ هل هيئات المحاكم لدينا لا يشغلها إلا مشاهدة صدر الشاهدة في قاعة المحكمة؟ هل القضاء عندنا يتاجر الآن في العملة؟ هل محاكما أصبحت مباحة أمام الشههود والمتهمين والمحامين حتى نشهد ملابس داخلية في قاعة المحكمة ومشاجرة باين المتهمين والشهود وتشابكا بالأيدي في وجود قضاء مصر؟ هل السلطة في مصر أأصبحت الآن هدما في بيوت الأثرياء، فإن العسكري الذي يمثله علي الشريف هو إسقاط على السلطة وهو يعمل خادما في بيوت لصوص الانفتاح بعد انتها ءعمله؟ هل القضاء الواقف قد تحول إلى حسن سبانخ؟ هل السجون قد تحولت إلى أوكار وكباريهات وعلب ليل؟ هل في مصر مجاعة حتيى يركض الناس لمجرد سماعهم خبر وصول "فراخ في الجمعية ؟ وسؤال أخير: ألا يوجد انسان شريف واحد كان يمكن أن يقيم معادلة بسيطة في فيلم الأفوكاتو الأسود والأحمر؟ اتقوا الله في حق مصر والمصريين ورحم الله جيل رواد السينما"، وربما لو لم يكن فيلم (الأفوكاتو) قد دخل في معركة قضائية حامية بالفعل بعد اتهامه بإهانة القضاء والمحاماة، لانشغل صناع الفيلم بالرد على اتهامهم بالإساءة إلى سمعة مصر بأكملها وليس قضاتها ومحاموها فقط.

هل هذه هي مصر؟
لا يتسع المقام هنا لذكر نماذج من كل الكتابات الصحفية التي دأبت طيلة فترة الثمانينات على مهاجمة الأفلام المصرية واتهامها بالإساءة إلى سمعة مصر وجرح مشاعر المصريين المقيمين في الدول العربية، لكني أختار فقط نموذجاً دالاً من هذه الكتابات كتبه كاتب يوصف بالاعتدال والهدوء، هو الكاتب صلاح الدين حافظ الذي كتب مقالاً في صحيفة (الأهرام) يتضامن فيه معنوياً مع هجوم كان قد شنه زميله الشاعر فاروق جويدة على فيلم (موت سميرة) في مقال حمل عنوان (هل هانت علينا مصر)، ليرد عليه بطل الفيلم الفنان كمال الشناوي في عدد الأهرام الصادر بتاريخ 23 مايو 1985 غاضباً من اتهامه بالإساءة إلى سمعة مصر، ومذكراً بتاريخه الطويل في السينما المصرية ومؤكداً على دراسته للفيلم جيداً وتأكده من تقديمه لدراما على مستوى عال، ومناشداً "أصحاب الأقلام الشريفة أن لا يصدروا حكما قبل أن يروا الفيلم وهذا هو الحق، أما هؤلاء الذين اتهموا كل من عمل في الفيلم بعدم الوطنية، فأقول لهم إن إلصاق مثل هذه التهمة الفظيعة بأي إنسان بلا دليل، عمل في منتهى القسوة".

وإلى جوار رد كمال الشناوي مباشرة نشرت (الأهرام) مقالاً لصلاح الدين حافظ يحمل عنوان (حرية الفنان ومصر التي هانت) جاءت فيه العبارات التالية التي يمكن اعتبارها ملخصاً لعشرات المقالات السابقة واللاحقة التي تعزف على نغمة الإساءة إلى سمعة مصر: " أبدأ بأن أعرض حالة من الواقع تعرضت لها قبل شهرين على وجه التقريب، حين كنت في عاصمة عربية، وأهداني صديق عربي مجموعة أفلام فيديو لأشاهدها، واشار إلى واحد منها قائلا: أرجو أن تبدأ بهذا، خصوصا إنه ممنوع في معظم العواصم العربية، وبعد أيام التقى بي متسائلا: هل شاهدت الفيلم إياه؟ قلت: نعم، قال: وما رأيك، قلت إنه فيلم منحط بمعنى الكلمة، لأنه تشويه صارخ لكل شيء في الحياة المصرية، الغاء للشرف والأمانة والعمل والعرق، وتجميل مزيف للجريمة والزنا والمخدرات والشذوذ، فالأبطال موزعون بين زوج قواد وزوجة خائنة وفتاة ليل وتاجر مخدرات ومصاب بالشذوذ الخ، قال الصديق: اصدقني هل هذه هي مصر كما جاءت في الفيلم، أم أن مصر هي التي أعرفها منذ أن كان عمري سبع سنوات".


ويعلق صلاح الدين حافظ على سؤال صديقه الذي لم يذكر اسمه مثلما فعل وجيه أبو ذكري، قائلاً إن سؤاله يوجع ويدمي القلب، "لأن البعض يستغل حرية النقد ليس في تقويم الوضع، لكن في تشويه كل شيئ، تارة باسم الواقعية، وتارة باسم الحرية، وتارة أخرى باسم الرمزية والاسقاطات السياسية الساذجة غالبا"، ومع أنه يشير إلى أن السينما المصرية قدمت خلال عقد الثمانينات مجموعة لا بأس بها من الأفلام الجيدة، "لكن هناك أفلاما خرجت علينا بالعكس بكثير من صور التشويه، الذي جاء عن غفلة أو عن عمد، طعن مصر العارفة في الصميم، فرأينا مصر من خلالها غارقة في المخدرات، غائصة في وحل الجريمة، وطين الشذوذ والضياع. نعم في كل مجتمع هناك المنحرف والمجرم والشاذ، لكن هناك الأصل والقاعدة وهي الأغلبية الغالبة، من الأسوياء والكادحين والشرفاء، يعيشون حياة سوية مهما كانت الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"، ليختم صلاح الدين حافظ مقاله بفقرة يمكن وصفها بأنها نموذج مختصر لخطاب حراس سمعة مصر عبر الأزمنة، قال فيها ما نصه: "إن عرض صور الانحراف الأخلاقي والسلوكي ليس وسيلة للعلاج بل وسيلة للاغراق في الانحراف... هل هناك في عالم اليوم حرية مطلقة حتى في بلدان الليبرالية الديمقراطية الغربية؟ هل من حق الكاتب والفنان أن يبيع عرض أمة باسم حرية النقد أو حرية الفن، هل من حق هذا أو ذاك أن يحتكر لنفسه قدسية ما باسم الحرية ليتاجر فيما لا يجب المتاجرة فيه... مرة أخرى نطرح السؤال الحائر: هل هي حقا حرية الفن تلك التي تنخر في قيم أطفالنا كالسوس؟ أم هي حرية الاتجار بالشهوات وإفساد الذوق وتشويه القيم الدينية والأخلاقية والسلوكية".

سمعة القاهرة وأهلها
لم يكن غريباً أن تتكرر أسئلة صلاح الدين حافظ عبر أقلام أخرى لكتاب كثيرين بعد خمسة سنوات، حين عادت تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" لتنبعث بشكل صاخب وحاد، كان هدفه هذه المرة المخرج يوسف شاهين، بعد أن عرض فيلمه التسجيلي (القاهرة منورة بأهلها) في افتتاح أسبوع المخرجين في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1991، برغم أن الصحافة المصرية احتفت بالفيلم حين أعلن عن عرضه في المهرجان، واعتبرته نصراً لمصر، لكن رد الفعل اختلف بعد مشاهدة الفيلم الذي تم اعتباره أكثر الأعمال إساءة إلى سمعة مصر على الإطلاق، لدرجة أن هناك سياسيين وصحفيين طالبوا بسحب جواز السفر المصري من يوسف شاهين، لأنه تعمد تشويه صورة مصر في أكبر المهرجانات الدولية، وفيما رأى البعض في هذا الطلب مبالغة لا تليق، طالبوا فقط بشطب عضوية شاهين في نقابة السينمائيين، وكان البعض أكثر رأفة بشاهين حين طالبوا فقط بتجميد عضويته إلى حين الانتهاء من التحقيق معه، لكن سعد الدين وهبة رئيس اتحاد النقابات الفنية والذي كان شاهين قد عارضه بقوة خلال أزمة قانون النقابات الفنية قبلها بعامين، فقد أكد في تصريحات صحفية أن الخلاف في الرأي الفني لا يعتبر جريمة نقابية، لكنه استدرك قائلاً إنه يمكن محاسبة شاهين نقابياً "إذا تمت مناقشة الفيلم في ندوة تضم عدداً من المفكرين والمثقفين والسينمائيين لتقييمه والحكم عليه، وإذا أثبتت هذه اللجنة أن الفيلم يسيئ بالفعل لمصر"، في حين قال منيب شافعي رئيس غرفة صناعة السينما إنه لم يشاهد الفيلم لكن الغرفة يمكن أن تصدر قراراً بوقف شاهين عن الإنتاج، إذا ثبت أنه أساء إلى سمعة مصر.

لم تكتف الصحف بشن هجومها على يوسف شاهين وحده، بل امتد هجومها إلى جهاز الرقابة على المصنفات الفنية والمركز القومي للسينما، لأنهما سمحا بتصوير الفيلم وخروجه من مصر، ليقول حمدي سرور رئيس جهاز الرقابة لمحمد رفعت محرر مجلة (أكتوبر) إن النسخة التي عرضها يوسف شاهين في مهرجان كان هي نسخة عمل لم يقم الرقباء بإبداء رأيهم فيها، "وقد كان هناك رقيب من عندنا يصاحب يوسف شاهين أثناء التصوير" للتأكد مما يصوره لكنه لم يذكر شيئاً في تقريره عن المشاهد التي أثارت الضجة، منبهاً إلى أن يوسف شاهين حصل على إذن تصدير من المركز القومي للسينما لاستكمال الأعمال الفنية للفيلم في معامل فرنسا إلا أنه عرضه قبل أن يعود إلينا مرة أخرى بعد تجهيز الفيلم في صورته النهائية.

لكن هاشم النحاس رئيس المركز القومي للسينما نفى التهمة عن مركزه قائلاً أن "هذا الفيلم صوره يوسف لحساب الإنتاج المشترك ولا علاقة للمركز به ولم يحصل منا على إذن تصدير .. ويوسف شاهين لم يمثل مصر طوال عمره الفني عن طريق لجنة المهرجانات العليا، وصحيح أن أفلامه تصور هنا إلا أنه يأخذ تصريحا بالتصوير مثله مثل أي أجنبي، وبعد ذلك يقوم بالعمليات الفنية من مونتاج ومكساج وغيرهما في المعامل في الخارج فهذا الفيلم غير مصري رغم أن مخرجه مصري لأنه مصنوع ومطبوع في فرنسا، ويوسف شاهين مؤسسة في حد ذاته ولم يخضع في حياته لإجراءاتنا العادية".

لم يكن هاشم النحاس مبالغاً فيما قاله عن وضع شاهين الخاص في السينما المصرية، الذي جنبه الكثير من التنكيل الذي لحق بسينمائيين مصريين لا يمتلكون علاقاته بالأوساط السينمائية والإعلامية الدولية، والتي توسعت في تغطية ما تعرض له من حملات حادة في الصحف الحكومية، سببت الحرج للنظام المصري، ومنعته من الاستجابة لحملات التحريض ضد شاهين، لتبقى مثارة فقط في الصحف الحكومية، دون أن تترجم إلى خطوات عملية كان يمكن أن تتخذ بسهولة، وكانت ستجد كثيرين من حراس سمعة مصر يتجاوبون معها ويرحبون بها. حالة التردد والارتباك التي سادت الأداء الحكومي في مواجهة حرص وسائل الإعلام الأجنبية على تغطية ما يجري لأشهر مخرج مصري في العالم، ساعدت شاهين على الخروج من خانة الدفاع عن النفس، ليبادر إلى عرض فيلمه في نقابة الصحفيين، وسط حضور حاشد من الراغبين في التضامن معه، من كارهي التفتيش في النوايا الوطنية، حتى وإن اختلفوا مع فن يوسف شاهين ولم يحبوا بعض أفلامه، ليبكي يوسف شاهين بحرارة في أحد أركان قاعة نقابة الصحفيين، بعد أن صفق أغلب الحاضرين طويلاً بعد انتهاء عرض الفيلم تقديراً له وتضامناً مع مخرجه، لتكتب أقلام عديدة من مختلف الأجيال دفاعاً عن الفيلم ومخرجه، وكان من الملفت للانتباه أن يكون على رأس المدافعين عن الفيلم الكاتب مصطفى أمين الذي لم تستطع الأقلام التي هاجمت الفيلم وخوّنت مخرجه أن تزايد على موقفه، خاصة أنها كانت قد تعودت من قبل على أن تتعامل معه بوصفه رمزاً للحرية والوطنية.

كتب مصطفى أمين في عموده اليومي (فكرة) بصحيفة (الأخبار) بتاريخ 3 يونيو 1991 قائلاً: " لم أفهم الضجة القائمة على فيلم يوسف شاهين، واتهامه بالخيانة العظمى لأنه أظهر مدينة القاهرة بكل عيوبها، كأن المفروض أن يقول إن القاهرة أنظف بلد في الدنيا وأن سكانها يعيشون في فنادق ماريوت وسميراميس وشبرد وهيلتون، كان يجب أن يرسم كل نساء القاهرة وقد ارتدت آخر موضات بوليس ونيويورك، كان لا بد أن يعلن أننا نضع الزبالة في ورق سيلوفان ولا نبعثرهافي الشوارع، ورجالنا يمشون في الشوارع وقد ارتدوا الملابس الرسمية الموشاة بالنياشين"، خاتماً فكرته بالقول "الوطنية أن ننظف القاهرة لا أن نمنع نشر صور أكوام القمامة وأن نمنع الضوضاء التي تصم آذان سكانها، وأن يكون لدينا سلالم حريق تصل إلى دور الأربعين، وأن يكون في كل شارع حديقة ومكتبة ومسرح ودار سينما صغيرة، الذين يتوهمون أن الوطنية أن نخفي عيوبنا هم تلاميذ مدرسة النعام التي تخفي رأسها في الرمال حتى لا يراها الصياد. المفروض أن تظهر هذه الحماسة في العمل على إعادة الاحترام للعاصمة الجميلة التي شوهناها بالإهمال وبالأبنية الخالية من الذوق والخرائب وبالإعلانات التي تشوه الشوارع وبالسيارات التي نضعها فوق الرصيف"، ليساهم مقاله في كسر حدة الحملة التي شنتها الصحف الحكومية على فيلم شاهين، والتي هدأ ضجيجها بعد أن تأكد الكثيرون من عدم استجابة الدولة لحملات التحريض ضد شاهين.

تجريم (الزواج على الطريقة المصرية)
بعدها بأشهر قليلة وفي ربيع عام 1992 تم توجيه تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" مجدداً إلى فيلم تسجيلي آخر هو فيلم (الزواج على الطريقة المصرية) للمخرجة الإنجليزية جوانا هيد بعد عرضه في مهرجان السينما التسجيلية الثاني في الإسماعيلية، حيث قالت الناقدة حسن شاه رئيسة تحرير مجلة (الكواكب) لصحيفة (الأهرام) أن الفيلم ـ الذي يحكي في حوالي خمسين دقيقة قصة امرأة مصرية في حواري القاهرة هجرها زوجها فقررت أن تبحث عن زوجة مناسبة لابنها ـ يعبر عن سوء نية الفنانين الأجانب في تصوير المجتمع المصري، وقامت بجمع توقيعات من بعض النقاد تطالب بإبعاد مخرجة الفيلم من المهرجان عقاباً لها على إساءتها إلى سمعة مصر وكرامة المرأة المصرية، وهو ما رفضه رئيس المهرجان المخرج التسجيلي هاشم النحاس الذي رفض الطلب لأن "المخرجة الإنجليزية ضيفة على المهرجان ونحمل لها كل تقدير واحترام مع اختلافنا في وجهة النظر"، وهو ما نشرته (الأهرام) مصحوباً بعلامتي تعجب، في حين نشرت مجلة (المصور) أن المخرجة الإنجليزية صرخت في وجه ناقد سينمائي مصري قائلة "أنت إرهابي تحاول أن ترهبني برأيك، كل الذي أردته أن أقدم نموذجا لامرأة مصرية عاملة تحاول أن تختار زوجة لابنها لتسعده"، ليعلق ناقد المجلة عبد النور خليل أن اللوم لا يقع على المخرجة الإنجليزية، بل "يقع علينا نحن فلو حكمنا ضمائرنا وقوميتنا واحترمنا البلد الذي يدوي فيه اسم أديب نوبل نجيب محفوظ وسكرتير عام الأمم المتحدة د. بطرس غالي لما حدث شيء من هذه الإساءات الصغيرة"!

الناقدة إيريس نظمي بدورها شنت هجوماً شرساً على الفيلم في مجلة (آخر ساعة) متساءلة عن سر إلقاء المخرجة الضوء على امرأة مصرية "قبيحة الشكل والمضمون"، متحدثة عن أن غضب النقاد والصحفيين على الفيلم "المشبوه" استمر منذ أن بدأ عرضه في الحادية عشرة والنصف مساء وحتى الساعة الخامسة صباحا، ولم تكتف بصب غضبها على المخرجة الإنجليزية التي وصفتها بالمشبوهة، بل أشارت إلى أن "الكارثة أن وراء هذا الفيلم طالبة مصرية هي التي ساعدت المخرجة الإنجليزية وقدمت المادة العلمية وأجرت الحوار مع هذه السيدة لتحقق للمخرجة الإنجليزية رغباتها في نقل أسوأ صورة للمرأة المصرية"، وتنشر إلى جوار هذا الكلام التحريضي صورة الباحثة الدكتورة ريم سعد لوقا، التي وقف عدد قليل من الكتاب والمثقفين معها ومع الفيلم ضد حملات التحريض التي تعرض لها، كان على رأسهم أستاذتنا الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم والناقد مصطفى درويش والمخرجة الكبيرة عطيات الأبنودي والدكتور سعد الدين إبراهيم، في حين شن الناقد الكبير سمير فريد هجوماً على الفيلم في صحيفة (الجمهورية) واعتبر أن تكرار لقطات المساجد على صوت الأذان وربطها بمشاهد البؤس والفاقة يشير إلى مسئولية الإسلام عن هذه الأوضاع، مطالباً (البي بي سي) التي أنتجت الفيلم بأن تبدأ بعرض الأفلام التسجيلية البريطانية التي أخرجها الفنان الكبير كين لوش، والتي قال إنها ممنوعة من العرض في التلفزيون البريطاني لأنها تشوه صورة بريطانيا، مشيراً إلى كذب ما أذاعه راديو إسرائيل بعد ساعات من ندوة الفيلم في مهرجان الإسماعيلية عن أن المصريين حين شاهدوا حقيقتهم على الشاشة انزعجوا وكأنهم يشاهدون لأول مرة.

كانت الناقدة السينمائية ماجدة خير الله ضمن الأقلام القليلة التي دافعت عن الفيلم، حيث كتبت في مقال لها بصحيفة (الوفد) أن الفيلم جاء ضمن سلسلة أفلام تسجيلية أنتجتها البي بي سي بعنوان (تحت الشمس) تتحدث عن حياة وعادات الشعوب، وأنها تعجبت من الهجوم المتشنج والمفتري ضد الفيلم الذي لا يقدم إساءة إلى المرأة المصرية أو إلى الشعب المصري، وأن الإساءة الحقة لمصر جاءت من حملات الردح التي قام بها بعض النقاد بعد الفيلم لدرجة تهديد البعض باستخدام الأحذية، وهو ما جعل راديو إسرائيل يتحدث عن همجية المثقفين المصريين. لكن ماجدة خير الله في الوقت نفسه أشارت إلى أن الفيلم يقدم "صورة أكثر إشراقا من الصور التي قدمتها بعض الأفلام الروائية، عن الفقر الشديد لسكان الأحياء الشعبية، والغريب أن نفس النقاد الذين يتحدثون عن الإساءة إلى سمعة مصر قد صفقوا لتلك الأفلام الروائية التي تصور الحارة المصرية كمستنقع للمجاري ومقالب للزبالة وسكانها يرتكبون الرذيلة والفحشاء، بل إن هؤلاء النقاد رشحوا لتلك الأفلام لتمثل مصر في المهرجانات العالمية، وساندوها بكل ما لديهم من شبكة علاقات كي تحصد الجوائز المحلية"، لكنها عادت لتستدرك قائلة إنها لا تطلب "تقديم أفلام عن سكان الزمالك وجاردن سيتي والمهندسين حتى نعطي للعالم صورة جميلة عن مصر، فلا يوجد فيلم روائي أو تسجيلي له القدرة على الإساءة إلى تاريخ مصر وسمعتها وإنما الإساءة الحقيقية تنتج من هذا الأسلوب الإرهابي في التعبير عن الرأي ومهاجمة أصحاب الآراء المضادة"، مشيرة إلى أن الحملات المنظمة والمكثفة التي تحمل هذا العنوان المثير "الإساءة إلى سمعة مصر"، جعلت المواطن يتحفز ضد هذه الأعمال قبل أن يشاهدها، وهو ما حدث في حالة فيلم (القاهرة منورة بأهلها) حيث طالب البعض بسحب جواز سفر يوسف شاهين وطرده من البلاد، ثم شاهد الناس الفيلم بعد فترة "ولم يشعروا أنه يحمل أي إساءة للمصريين أو للمسلمين، ولم تتغير صورة مصر في العالم نتيجة عرض الفيلم في بعض محطات التلفزيون الأوروبية".

كان حمدي سرور رئيس الرقابة على المصنفات الفنية قد حرص على إخلاء مسئوليته عن عرض الفيلم مؤكداً أن الرقابة لا يمكن أن تسمح بعرض أفلام من هذا النوع المسيئ إلى سمعة مصر، وأن مسئولية صنع الفيلم تقع على عاتق الهيئة العامة للاستعلامات، "مطالباً بعدم اعتبار الأفلام التسجيلية أفلاماً إعلامية تشرف عليها الهيئة العامة للاستعلامات حتى تتمكن الرقابة من القيام بدورها في هذا المجال"، ليرد عليه أحمد الإبراشي رئيس المركز الصحفي بالهيئة معتبراً أن رئيس الرقابة تحدث بلغة وظيفية بحتة لإبعاد المسئولية عن ذاته وإلصاقها بآخرين، ومؤكداً أن الهيئة العامة للاستعلامات قامت بعملية مراقبة تصوير الفيلم على أكمل وجه، لكن الهيئة فوجئت بأن بريد القراء في إحدى الصحف نشر منذ عدة أشهر شكوى من مواطن مصري شاهد برنامجا في التلفزيون البريطاني يظهر أسرة مصرية تسيئ في أحاديثها ومظهرها وتصرفاتها إلى مصر، وأن البرنامج ظهر عليه اسم نفس المخرجة، مما دفع رئيس هيئة الاستعلامات إلى تكليف رئيس المكتب الإعلامي المصري في لندن بمقابلة المخرجة والمنتجة التي قالت إنها قامت بتصوير تلك الأسرة دون حضور مندوب الهيئة، "لأنها فنانة والفن ليس له توقيت معين أو خطة توضع سلفا، وأنها تعلم أن مصر بلد ديمقراطي وأن القاهرة هي هوليوود الشرق فلم تر مانعا من قيامها بتصوير الأسرة، إلى جانب أنها أثناء وجودها في القاهرة شاهدت أفلاما من هذا النوع وشعرت أن السلطات المصرية لن تعترض على ذلك وقد تم التصوير بموافقة الأسرة نفسها وبدعوة خاصة منها وبدون علم أي جهة مسئولة"، ولم ينس رد الهيئة أن يطالب الرقابة "بأهمية أن يهتم كل جهاز بمسئولياته بصورة كاملة دون الإسراع بمحاولة إلقاء اللوم على الآخرين"، ولا أدري كيف فات على الأقلام التي تابعت المعركة أن تهاجم كلاً من رئيس الرقابة ورئيس المركز الصحفي، لتعتبر أن تبادلهما الاتهامات على الملأ يسيئ بدوره إلى سمعة مصر.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.