خمس كاميرات مكسورة ومئة سؤال حائر (1 من 2)

خمس كاميرات مكسورة ومئة سؤال حائر (1 من 2)

27 ديسمبر 2021
+ الخط -

حدثني عن أهمية الصبر فقط عندما تجد نفسك مطرحي.

هل أنفجر الآن هاتفاً وأجري نحو أقرب علم إسرائيلي يرفرف في وجهي فأنتزعه من حامله وأمزقه أو أحاول حرقه على طريقة فيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية)، فأسقط على الأرض وأنا أتعرض لضربات مئات المحتشدين المدافعين عن علم دولتهم والذين سيتفرق دمي بينهم، فأنضم إلى قافلة الشهداء الصناديد، ليس عن بطولة حقيقية، ولكن بسبب معركة مجانية تدور رحاها على أرض «الفيفث أفينيو» في قلب مدينة نيويورك، ستتخذها الصحف ومحطات التلفزيون كلها على الفور دليلاً على همجية العرب وعدم قدرتهم على الحوار وقبول الآخر.

كنت قد خرجت من فندقي يومها في الصباح الباكر لكي أتجه إلى المتحف اليهودي القريب مني، والذي يعتبره الكثيرون أهم متحف للتراث اليهودي في العالم. كنت مهتما بزيارة جناح يوثق للوجود اليهودي في مصر في مطلع القرن العشرين قرأت عنه قبل أيام. كان ترتيب زيارتي للمتحف ضمن قائمة زياراتي النيويوركية قد جاء بالصدفة في ذلك الأحد الذي وافق يوم الثالث من يونية والذي لم أكن أعلم أنه نفس اليوم الذي سيحتفل فيه أنصار دولة إسرائيل في نيويورك بما يسمونه (عيد استقلال إسرائيل).

كنت قد وصلت إلى المدينة قبلها بأيام، وشاهدت أعلام إسرائيل معلقة على الكثير من أعمدة الإنارة في شوارع نيويورك مصحوبة بجملة (مسيرة إسرائيل) التي تعقد كل عام تأييدا من كل أنصار إسرائيل لها واحتفالا بها، وكنت أظن أن المسيرة ستنعقد في يوم الخامس من يونية المشئوم للاحتفال بانتصار إسرائيل على الجيوش العربية، ثم عرفت يومها أن المسيرة تقام في الأحد الأول من كل شهر يونية أياً كان التاريخ الذي يوافقه، لكيلا يتم تعطيل الطرق التي تكون خالية في يوم الإجازة، ولكي يسهل حشد الكثير من الأنصار من أجل المسيرة التي لا يفوقها في ضخامة عدد المشاركين إلا المشاركون في يوم بورتوريكو الوطني الذي صادف أنني حضرته بعد أسبوعين، وشهدت كيف تحولت أغلب شوارع حي مانهاتن قلب مدينة نيويورك النابض إلى نسخة لاتينية في الملابس والأعلام والمؤخرات وروائح الشواء وألوان الطعام وصيحات اللغة الإسبانية المتصاعدة من آلاف المبتهجين في الشوارع والنواصي.

كان المتحف اليهودي مزدحماً للغاية ولم تكن بي طاقة للانتظار في طابور طويل، ففضلت التسكع في الطرقات حتى يأتي موعدي التالي. وقفت أرقب المشاركين في مسيرة إسرائيل وهم يلوحون بأعلامهم بفرحة وابتهاج حاولت أن أقرأ في اللافتات التي يحملونها مصدرا جديدا لهما فلم أجد.

كانت السفريات المتتالية إلى الخارج قد علمتني كيف أتمكن من كبح جماح اندفاعي عندما ألتقي صدفة بمواطنين إسرائيليين وكيف أحاول ألا يبدو أنني متوتر عندما أكتشف هويتهم، بل أبدو واثقا من نفسي وأستغل الفرصة لتوجيه رسائل سياسية مباشرة لهم وللمحيطين بنا في ذلك اللقاء.

لا زلت أذكر المرة الأولى التي التقيت فيها بإسرائيليين خلال زيارة لأحد شلالات مدينة أنطاليا التركية، كنت أسير مع زوجتي ضمن مجموعة سياحية قادمة من القاهرة، عندما فوجئنا بمرشد سياحي تركي يقترب منا ليسألنا مرحبا: «من أين أنتم؟»، وعندما أجبناه أننا من مصر، أشار إلى مرافقيه بفخر شديد وقال لنا: «هؤلاء أولاد عمكم من إسرائيل». أقبل علينا من معه مرحبين بحفاوة شديدة ومادين أيديهم بالسلام ليفاجئوا بنا ونحن نقف في حالة من الارتباك الشديد انتهت بأن غادرنا المكان مسرعين دون أن نمد أيدينا للسلام عليهم، مكتفين بأن نصوب نحوهم نظرات نارية حادة.

كنت منذ لقائي بالرجل البريطاني وزوجته الحاخاماية على ضفة ذلك النهر الويلزي قد تعودت على أن أخوض مناقشات جادة وحامية مع أصدقاء أو معارف أمريكيين وبريطانيين بل وأتراك وهنود أحياناً حول إسرائيل وموقفنا منها وما الذي نريده كعرب لكي يحل السلام في ربوع الشرق الأوسط، وتعلمت من التجارب المتتالية أن النبرة الحادة واللغة الصاخبة التي تريحنا داخل أوطاننا لا تجديان شروى نقير في الخارج، وأن أكثر ما يمكن أن تفيد به القضية الفلسطينية حقا وصدقا هو استخدامك للغة المنطق التي تعرض بهدوء حقائق حول عنصرية إسرائيل وعدم قبولها للفلسطينيين أصلا كبشر يتمتعون بأبسط الحقوق المشروعة.

أقر هنا أنني استفدت كثيراً من لغة ومنطق وأفكار المفكر الفلسطيني العظيم إدوارد سعيد خصوصاً في محاوراته مع الصحف العالمية، وهي المحاورات التي جمعها بنفسه في سلسلة كتب صدر أغلبها عن دار الآداب اللبنانية. صحيح أن بعضها كان يبدو منفرا لشخص مثلي تربى على فكرة استرداد كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، وعلى أن التفريط في شبر من أرض فلسطين خيانة ولو كان ذلك بطرح فكرة الدولة الواحدة التي اكتشفت بعد ذلك أن طرحها كان أكثر ما يربك المؤيدين لإسرائيل في كل مناقشة خضتها معهم، لأن مجرد رفضها من الباب للطاق دون منطق كان يكشف للمحايدين أو غير المتابعين عنصرية الفكرة التي بنيت عليها دولة إسرائيل، برغم ذلك ربما أتفهم ولكني لا أتقبل حتى الآن تعاملات إدوارد سعيد مع الإسرائيليين الذين يوصفون بأنهم محبون للسلام مثل الموسيقار دانييل برونبايم الذي شاركت في شن حملة عليه عندما جاء إلى القاهرة قبل ثلاث سنوات، ولا زلت أعتبر أن كون الإنسان إسرائيلياً يحمل جنسية بلد غاصب محتل ولكن هذا الإنسان يعتبر نفسه محبا للسلام في ذات الوقت هو إشكال يخصه هو دون غيره، وعليه أن يعلن عن حبه للسلام ولكن بعد أن يثبته أولاً بأن يتخلى عن جنسية دولة تغتصب حقوقاً ليست لها وترتكب فظائع لا يقبلها أي ضمير إنساني.

كل هذا جال في خاطري خلال الدقائق التي ظللت أراقب فيها المسيرة الحافلة بآلاف من المبتهجين الذين يرفعون أعلام إسرائيل عالية خفاقة وهم يسيرون في شوارع نيويورك المحددة سلفاً لمسيرتهم، ظللت أبحث بعينيّ في الشوارع المحيطة عن مسيرة عربية مناهضة يتم تنظيمها بشكل رمزي للعكننة على المشاركين في المسيرة أو حتى وقفة احتجاجية تذكر بالفظائع التي ارتكبتها إسرائيل من باب عرض الرأي والرأي الآخر، إلا أنني لم أجد أثراً لأي من ذلك، سألت كل من أعرف من أصدقائي المقيمين في المدينة عما إذا كان ذلك مسموحا به قانونا من الأصل، فلم أجد إجابة شافية، قال لي البعض إنهم سمعوا عن دعوات لعقد وقفات احتجاجية مثل هذه لكنها عادة تكون أمام مقر الأمم المتحدة، سألت عما إذا كانت هناك مسيرة تعقد باسم (مسيرة فلسطين) يتم تنظيمها في يوم ذكرى النكبة ويتم فيها حشد العرب والمسلمين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية من كل الجنسيات، وأزعم أن أعدادهم ستكون أكبر إذا صدقت النوايا، فنفى لي كل من أعرف وجود مسيرة حاشدة كهذه، ربما كانت هناك وقفات احتجاجية أو مظاهرات عند وقوع جرائم إسرائيلية مروعة مثل العدوان على غزة أو قتل محمد الدرة، لكنه لا توجد للأسف مسيرة منتظمة من أجل فلسطين يتم الحشد لها بشكل إعلامي من قبل كل الجاليات العربية والإسلامية التي لا تعاني أبدا من قلة العدد في نيويورك. قلت لأكثر من صديق إن أصحاب عربات الهوت دوج والفلافل الذين يحتلون كل نواصي نيويورك المهمة والفرعية، وحدهم كفيلون بأن يثيروا اهتمام الرأي العام النيويوركي والأمريكي في آن واحد، لو شاركوا في هذه المسيرة خلال يوم عقدها، كما يفعل البورتريكيون في يوم عيدهم، أو كما يفعل مناصرو إسرائيل في يوم مناصرتهم لها، خاصة أن القانون لا يمكن أن يمنعهم من حرية التعبير عن رأيهم، لكن المشكلة أنهم لا يريدون التعبير عن رأيهم أصلا.

لكن الصدفة وحدها جعلتني أشهد ردا قويا ومزلزلا على مسيرة إسرائيل في نفس اليوم وفي قلب نيويورك، لكنه رد لم يأت من عرب ولا من مسلمين على الإطلاق، بل جاء من خلال واحد من أشهر المراكز الثقافية في نيويورك (Film Forum منتدى الفيلم).

كانت صحفية أمريكية صديقة قد دعتني في مساء نفس اليوم لحضور عرض فيلم تسجيلي فلسطيني بعنوان (خمس كاميرات مكسورة)، كنت قد قرأت عنه أكثر من عرض نقدي يحتفي به بشدة، وعندما اتصلت بي الصحفية صباح ذلك اليوم لكي تؤكد على موعدنا وجدتها تنبه عليَّ أن آتي مبكرا تجنبا للوقوف في طابور مزدحم قبل الدخول إلى العرض، قلت لها ساخرا: من سيهتم في نيويورك بحضور فيلم تسجيلي وكمان فيلم فلسطيني؟ فقالت لي إن ذلك ليس صحيحا وإنها عثرت لنا بصعوبة بالغة على تذكرتين لأن التذاكر كلها نفدت قبل أيام واضطرت للاستعانة بصديق تنازل لها عن تذكرتيه مؤجلا الفرجة إلى يوم آخر، قلت لنفسي: إذن فقد ظلمت عرب نيويورك عندما ظننتهم غافلين عن ضرورة مساندة القضية الفلسطينية في يوم كهذا، فهاهم يساندونها بالالتفاف حول فيلم مهم كهذا يحكي عن معاناة المصور الفلسطيني عماد برنات الذي تحطمت خمس كاميرات له على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية، ويحكي في الفيلم الذي اشترك في إخراجه قصة كل كاميرا عارضاً نماذج من اللقطات

التي صورتها قبل تحطمها، في أثناء توثيقه على مدى سنوات لكفاح قرية (بلعين) الفلسطينية ضد الجدار العازل الذي بنته السلطات الإسرائيلية وخربت من أجله حقولا ومزارع لأهل البلاد الذين قرروا أن يناضلوا ضد الجدار سلميا ليس فقط في المحاكم الإسرائيلية المتحيزة ضدهم، بل ومن خلال مظاهرات سلمية بدأت تتحول إلى ظاهرة دولية بانضمام نشطاء دوليين لمشاركتهم والتضامن معهم.

...

نكمل غداً بإذن الله.

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.