صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (2)

صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (2)

08 ابريل 2019
+ الخط -
سمعتنا في السودان!
لا أجد مثلاً يكشف عن مدى التأثير الذي أحدثه تحريض الصحافة ضد صناع الأفلام التي تسيء إلى سمعة مصر، ولا عن مدى الضرر الذي ألحقه تدخل الرقيب المصري الوطني المثقف بالسينما المصرية، أوقع من ما حدث عام 1946 لفيلم (أرض النيل) للمخرج عبد الفتاح حسن والذي كتب حواره يوسف جوهر ولعب بطولته أنور وجدي وعقيلة راتب وزكي طليمات ومديحة يسري وعبد الوارث عسر. كانت وزارة الداخلية التي عادت منذ قيام الحرب العالمية الثانية، وبزعم الاعتبارات الأمنية للاشتراك في مراقبة الأفلام من جديد، قد صرحت بعرض الفيلم دون إبداء أية ملاحظات تخص الأمن العام والنظام العام، بل ووصفه رقيبها محمد طولان بأنه "فيلم اجتماعي تهذيبي عن حياة الفلاحين في مصر وحاجتهم للتخلص من المرابين بوسائل مشروعة كالتعاون"، لكن رقابة السينما التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، والتي كانت قد تخلصت من الرقباء الأجانب وامتلأت بالرقباء الوطنيين المثقفين، تحفظت على الفيلم، واشترطت "حذف بعض مناظر تشين بسمعتنا وكرامتنا إن عرضت على الأمم الأخرى" لكي تسمح بتصدير الفيلم إلى الخارج، طبقاً لما جاء في تقرير الرقيبة أمينة الصاوي ـ كاتبة السيناريو فيما بعد ـ والتي تكرمت بالسماح "بالإبقاء على جميع المناظر السيئة للقرية المصرية في حالة العرض داخل مصر".

أما الرقيبة المثقفة اعتدال ممتاز زوجة الكاتب الكبير أحمد رشدي صالح، والتي تدرجت في العمل الرقابي طيلة ثلاثين عاماً، حتى تولت مسؤولية جهاز الرقابة في نهاية الستينيات، فقد كتبت في تقريرها عن فيلم (أرض النيل) حين طلب المنتج تصديره إلى السودان: "الفيلم يعرض الريف المصري في حالة سيئة من حيث الطغيان والفقر والمرض والجهل على أفراده ويصوره في حالة لا تليق بتصديرها إلى السودان، وعليه أرى منع تصديره حتى لا يسيء إلى سمعة البلاد"، ولم توافق الرقابة على عرض الفيلم إلا بعد أن أضيفت قبل بدايته فقرة تقول إن الفيلم يتحدث عن عصور ماضية، وأن "كل شيء تغير حتى أصبح الريف المصري جنة ينعم بخيراتها ساكنوه من الفلاحين وصغار الزراع"، لتكتمل بذلك الموقف الرقابي العجيب تعاسة ذلك الفيلم الذي كان منتجه (استديو مصر) قد قام بركنه في العلب لمدة أربع سنوات، ربما تخوفاً من موقف السلطات التي لم تتوقف عن شن حملات شرسة ضد الأفلام التي تدعو للأفكار الشيوعية، ولعل ذلك في اعتقادي ما دفع مخرجه وكاتب قصته عبد الفتاح حسن للتركيز على الأفلام الغنائية التي أبدع منها الكثير خصوصاً مع المطرب محمد فوزي.

لم يكن ما حدث لفيلم (ابن النيل) بعيداً عما حدث في عام 1949 لفيلم (أمينة) من إنتاج وإخراج جوفريدو ألسندريني الذي اشترك في كتابة سيناريو الفيلم مع يوسف وهبي، الذي لعب أيضاً بطولة الفيلم مع آسيا نوريس ورشدي أباظة وسراج منير، وكان المخرج قد صنع من الفيلم نسخة فرنسية وأخرى مصرية، وبرغم أن مجلة (الكواكب) أشادت بما اتسم به الفيلم من "دقة فنية وتصوير بارع وتمثيل رائع"، إلا أنها انتقدت عدم إظهاره شيئاً من مظاهر المدنية الحديثة مما يمكن أن يؤثر على سمعة مصر، وهو نفس ما قالته رقابة وزارة الداخلية في تقريرها، حيث اعتبرت أن الفيلم "يظهر المصريين في صورة خلقية منحلة، فجميع الذين يصادفون الزوجة الأجنبية يعاملونها معاملة غير شريفة"، ولذلك فقد رأت الرقابة عدم تصديره إلى الخارج لكنها في الوقت نفسه سمحت بعرضه داخل القطر المصري لأنه يهدف إلى "عدم تحبيذ الزواج من أجنبيات"، وهو ما جعل صناع الفيلم يرفعون عدة التماسات إلى الداخلية لتسمح لهم بتصدير الفيلم إلى الخارج لتتم تغطية تكاليفه المرتفعة، وحين لم يتم حل المشكلة، نشرت مجلة (آخر ساعة) في 31 أغسطس 1950 خبراً عن تهريب نسخة الفيلم النيغاتيف إلى الخارج في غفلة من أعين المسؤولين، وهو ما نفاه جمال مدكور مدير إنتاج الفيلم، طبقاً لما يرويه الباحث محمود علي خلال تتبعه لمسيرة هذا الفيلم الذي أدت المشاكل التي تعرض لها، إلى توقف الشركة التي أنتجته عن سعيها لتكرار تجربة إنتاج نسخ خاصة من الأفلام المصرية لعرضها في أوروبا، لتحرم السينما المصرية من فرصة مبكرة ومهمة للوصول إلى جمهور جديد، بسبب شبح تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر".


رقابة العهد الجديد
حين تولى أستاذ الصحافة البارز الدكتور إبراهيم عبده قبيل ثورة يوليو 1952 مسؤولية جهاز الرقابة الذي كان قد انتقل مرة أخرى من اختصاص وزارة الداخلية إلى اختصاص وزارة الشؤون الاجتماعية فقط، زف إلى السينمائيين في اجتماعه بهم ـ نشرت صحيفة الأساس وقائعه في 31 مارس 1952 ـ بشرى سارة بتقليل المحظورات الرقابية التي أعلنتها لائحة الرقابة القديمة، ليتم إنقاصها إلى ستة محظورات فقط يجب على كل الأعمال الفنية مراعاتها وهي: "توقير الملكية إذا تعرضت للتاريخ وعالجته في مسرحية أو أغنية أو فيلم ـ عدم التعرض للمبادئ المتطرفة سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ـ مراعاة سمعة مصر بحيث تعطي صورة طيبة في الخارج ـ عدم التعرض للمسائل الدينية ولو كانت في التاريخ ولا في هذا المعنى تصوير حياة الجماعات الدينية أو طقوسها بشرط ألا يقلل من اعتبارها أو توقيرها ـ مراعاة الآداب العامة بالابتعاد عن الألفاظ النابية والأغاني الماجنة والمشاهد الفاضحة ـ عدم التعرض بشخصية عمومية لا تتعدد نظائرها في الدولة أو من الحياة العامة إلا إذا كان هذا التعرض مصحوبا بالتقدير والاحترام"، وهو ما وصفه الباحث محمود علي بأنه "اختزال ذكي لمواد اللائحة القديمة المعمول بها منذ ربع قرن"، فضلاً عن كونه قنّن ولأول مرة تهمة الإساءة إلى سمعة مصر، لتتحول من تهمة فضاضة يتشدق بها الكتاب والنواب، إلى تهمة تمتلك أساساً قانونياً يمكّن الدولة في محاسبة من شاءت من الفنانين إن رأت أنهم أساؤوا إلى سمعة مصر، بل وإن لم يعطوا عنها "صورة طيبة في الخارج".

ومع أن البند الأول من اللائحة "الجديدة" لم يصمد طويلاً، بعد أن أطاح ضباط يوليو 52 بالملكية التي لم تستفد كثيراً من كل ما تم فرضه من محظورات رقابية، وصلت إلى حد منع أفلام عن الثورة الفرنسية وحذف لقطات من أفلام أجنبية تسخر من تصرفات بعض الملوك، وهي أفلام أعيد السماح بعرضها بعد الإطاحة بالملكية بشكل مثير للسخرية ـ تروي تفاصيله اعتدال ممتاز في مذكراتها المهمة ـ لكن باقي بنود اللائحة في الوقت نفسه صمدت وترسخت، واستفاد منها "العهد الجديد" الذي لم يكلف نفسه عناء استقدام رقباء جدد، فقد قام الرقباء القدامى معه بالواجب وزيادة، لدرجة أنهم لم يكتفوا بتشديد الرقابة على الأفلام التي تم إنتاجها بعد قيام الثورة، بل بدأوا يشددون من رقابتهم على الأفلام التي سبق أن أجازوها في "العهد البائد"، حيث قام الرقباء على سبيل المثال لا الحصر في عام 1954 بمنع تصدي أفلام قديمة عديدة على رأسها فيلم (اليتيمتين) للمخرج حسن الإمام الذي سبق عرضه في نوفمبر 1948، بدعوى "أن عرضه في الخارج يسيء إلى سمعة البلاد"، طبقاً لتقرير رئيس قسم مراقبة الأفلام محمد حلمي سليمان الذي رأى أن "الفيلم خرج في صورة مؤذية للشعور القومي مما يعطي فكرة سيئة عن الحياة المصرية كاغتصاب الفتيات إلى مشهد امرأة عجوز تسيطر على فريق من البلطجية وتسألهم احتساء الخمر في حانة قذرة وتقسو على فتاة عمياء تستغلها في بيع اليانصيب وتعاون ابنها البلطجي على الفساد كما تأتي بأعمال لا تليق بسنها، وبالجملة فإن الفيلم يعرض مناظر سيئة لمصر".

لم يكتف الرقيب الغيور على سمعة مصر بهذا المنع ذي الأثر الرجعي، بل أوصى بأن تتم مساءلة الرقيبتين "اللتين راقبتا الفيلم وكتبتا عنه تقريرهما وكيف غاب عنهما هذا"، في إشارة إلى الرقيبتين علية فريد وأمينة الصاوي، ومع أن الكاتب الصحافي فاروق القاضي كتب تقريراً بطلب من إدارة الرقابة، يرد فيه على تقرير رئيس قسم مراقبة الأفلام، وهو تقرير مهم نشر الباحث محمود علي نصه الذي جاء فيه: "أما أن يأتي فيلم يناقش أدران المجتمع وتقاليده وأخلاقه، هذا المجتمع الذي ظل يرزح تحت طغيان الاستعمار والإقطاع سنيناً طويلة ونقول أنه يسيء إلى سمعتنا فهذا هو التعامي عن الحقيقة والنعامة التي تدفن رأسها في الرمال"، إلا أن الإدارة العليا للرقابة انحازت للأسف لرأي الرقيب المتشدد ومنعت تصدير الفيلم إلى الخارج، وظل ممنوعاً لعدة سنوات.

سقوط القاهرة!
كان من الطبيعي أن يصل التشدد الرقابي إلى هذا الحد، خاصة أن ثورة يوليو أسندت بعد قيامها مسؤولية الرقابة على الأفلام إلى الكاتب عبد المنعم شميس، الذي كان قد أصدر قبل قيام الثورة مباشرة وبالتحديد في عام 1951 كتاباً مثيراً بعنوان (سقوط القاهرة) كتب مقدمته الناقد والشاعر سيد قطب والذي لم يكن قد انضم بعد إلى جماعة الإخوان المسلمين، وقد شن الاثنان في الكتاب حملة شرسة على كل ما له علاقة بالوسط الفني المصري من سينما ومسرح وغناء ورقص ـ أقوم بعرض الكتاب قريباً بإذن الله ـ ومع أن سيد قطب تحول في خلال فترة قصيرة جداً من واحد من أبرز منظري الثورة وواضعي سياساتها الثقافية إلى واحد من ألد أعدائها، إلا أن عبد المنعم شميس لم يواجه ذلك الخطأ، بل استمر في مساندة ثورة يوليو بكل ما أوتي من قوة خصوصاً في معاركها السياسية الخارجية، وحين أدرك أن أحلامه الرقابية وأفكاره الساخطة على الفن لا تناسب سياسات العهد الجديد الذي كان محتاجاً بقوة إلى دعم الفن والفنانين، قرر عبد المنعم شميس أن يتوقف عن مهاجمة الفن والفنانين، ليتم نقله من جهاز الرقابة، ليعمل معاوناً لأنور السادات في المؤتمر الإسلامي، ويبقى مؤمناً بالسادات حتى النهاية، لكن أغلب ما كتبه في مديح عبد الناصر والسادات، لم يعش بقدر ما عاشت له كتبه الجميلة عن تاريخ القاهرة وسير بعض مثقفي مصر وفنانيها.


لكن حرص الثورة على مساندة الفنانين الكبار الذين واجهوا مشاكل مع الرقابة في البداية، لم يصحبه تساهل في سياسات الرقابة وقوانينها، فقد استمر الرقباء في تشديد قبضتهم على الأفلام، لتدخل إلى تقاريرهم تعبيرات أكثر حدة وخطابية، كذلك التعبير الذي سنجده في أحد تقارير عام 1954، يصف صُنّاع فيلم بأنهم: "أمعنوا في الحط من عادات هذا البلد وتقاليده من ذلك إظهار الشباب يعاكسون فتاة في الطريق العام". وطبقاً لما ترويه اعتدال ممتاز في مذكراتها، فإن (العهد الجديد) حرص على تشديد القوانين واللوائح الرقابية، وإعادة تنظيم جهاز الرقابة من الداخل، والحرص على تعيين أصحاب المؤهلات الجامعية كرقباء، ثم قرر مد نشاط الرقابة ليشمل المسرح المدرسي والجامعي الذي كان متروكاً بغير رقابة حتى قيام ثورة يوليو، وطبقاً لهذه التعليمات الجديدة بدأت مراقبة النشاط المسرحي في المدارس والجامعات، وهو ما أدى إلى أن يَصدر بعدها بسنوات تقرير رقابي تورد اعتدال ممتاز نصه، يوصي بمنع مسرحية في الجامعة الأميركية "حفاظا على الآداب العامة والنظام العام لأنها تشتمل على مشاهد وحوار فاضح لا يصح عرضه على أبنائنا الطلبة"، وكان التقرير صادراً بالإجماع عن لجنة تضم في عضويتها نجيب محفوظ وسامي داود وكمال الملاخ وأحمد الحضري واسماعيل القاضي وحسن عبد المنعم واعتدال ممتاز، واللافت للانتباه أن الرقابة قررت التصعيد باستدعاء المشرف الاجتماعي المسؤول بالجامعة للتفاهم معه على القيم التي يجب عرضها على الطلبة.

سمعة الجمهورية العربية المتحدة
وبرغم إحكام الدولة قبضتها على صناعة السينما رقابياً وإنتاجياً وسياسياً، إلا أن تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" لم تختف من الوجود، بل تغير اسمها فقط بعد أن تغير اسم مصر نفسه لتصبح (الجمهورية العربية المتحدة)، التي لم تعدم من يقفون ضد الإساءة إلى سمعتها ولو بأثر رجعي، وهو ما نراه مثلاً في الخطاب الذي أرسله القائم بأعمال السفير المصري بالمجر في عام 1959 إلى وزارة الثقافة والإرشاد يطالب فيه بمنع بيع فيلم (ابن النيل) للمخرج يوسف شاهين إلى أسواق السينما في الخارج، "لما يحمله من أسوأ دعاية للجمهورية العربية المتحدة ولأنه لا يظهر أي وجه من أوجه تقدمنا في عهد نهضتنا الحاضرة"، لترسل الوزارة الخطاب إلى إدارة البحوث السينمائية بمؤسسة السينما التي كان يشرف عليها المخرج أحمد بدرخان، الذي كتب مذكرة وافية أشار فيها إلى أن الفيلم سبق وأن مثل مصر في مهرجان فينسيا للسينما عام 1951 وفي مؤتمر السينما بالهند عام 1952، وأن الرقابة صرحت بعرضه كما صرحت لجنة تصدير الأفلام بتصديره.

وأضاف أحمد بدرخان بعد أن فاض به الكيل من تكرار تلك الطلبات الغيورة على سمعة الجمهورية العربية المتحدة: "هل يُفهم من هذا أن جميع الأفلام التي تُعمل يجب أن تكون أفلاماً دعائية، وأن تكون القصص موجهة توجيهاً معيناً، تعلمون سيادتكم أن لكل فيلم قصة تقع حوادثها في زمان معين ومكان معين ولا يمكن تغييرها حسب رغبة معينة وإلا فقدت القصة الناحية الفنية فيها، وهل يفهم من هذا أن جميع الأفلام يجب أن تكون بعيدة عن الواقعية ويجب أن تكون إظهاراً فقط للتقدم والنهضة في البلاد التي تصنع فيها الأفلام. الأمر يا سيادة الوكيل خطير من كونه أن دأب في الآونة الأخيرة بعض من يمثلون الجمهورية العربية المتحدة في الخارج يأخذون المواضيع في قالب أكثر مما يحق لهم"، مشيراً إلى منع عرض فيلمي (نور الليل) و(سيدة القصر) في مهرجان السينما في مقديشيو بعد شكوى السفارة المصرية بالصومال، والإشارة إلى أن شكوى السفارة المصرية بالمجر يمكن أن يترتب عليها تضييق الخناقة على تسويق الفيلم المصري بالخارج، موصياً "بالحد من هذه الأعمال التي تسبب تعطيلاً وخسارة بالنسبة لشركات الإنتاج العربية وبصفة خاصة بعد أن تصرح لجنة تصدير الأفلام والرقابة عليها".

وبدلاً من أن تتم الاستجابة لتحذيرات أحمد بدرخان من أثر هذه الممارسات على صناعة السينما، قررت وزارة الثقافة وجهاز الرقابة أن يقوما بمعاقبة الأفلام السينمائية من المنبع، وأن يتوسعا في إصدار قرارات منع الأفلام من التصدير "لأسباب فنية واجتماعية وسياسية في مقدمتها ذريعة هبوط المستوى الفني"، ومع أن اعتدال ممتاز تؤكد أن قانون الرقابة كان صريحاً حين خلت مواده من تمكين الرقابة من الحكم على مستوى الأفلام إيجاباً أو سلباً، إلا أنها تكشف أن "الرقابة ووزير الثقافة رأيا أن يستخدما أسلوب المنع كنوع من الزجر أو التأديب أو التنبيه لمنتجي الأفلام الهابطة والمسيئة إلى صناعة السينما"، حتى لو أدى ذلك إلى وقوع خسائر مالية، في حالة القيام منع تصدير الأفلام التي أنتجتها الدولة مثل أفلام (لعبة كل يوم ـ شقة مفروشة ـ قصر الشوق)، بل إن فيلم (قصر الشوق) للمخرج حسن الإمام عن رواية الأديب الكبير نجيب محفوظ، لم يتم الاكتفاء باتهامه في ديسمبر 1967 بأنه "في عمومه يسيء إلى سمعة البلاد ويؤدي إلى التشهير بتاريخنا القومي"، بل واتهمته الرقابة بأنه يحمل في طياته دعاية مسيئة إلى الإسلام وتحريفاً للآيات القرآنية والأحاديث، ومع أن الرقابة فشلت في منع عرض الفيلم داخل مصر بسبب ضغوط الصحافة، لكنها أصرت على منع تصديره إلى الخارج برغم كل ما تعرضت له من انتقادات.


معركة قصر الشوق
حين تصاعدت أزمة منع فيلم (قصر الشوق) من التصدير إلى خارج مصر، قرر وزير الثقافة أن يشكل مجلساً للرقابة على المصنفات الفنية يضم عدداً من المثقفين والكتاب ـ وهو تقليد سيتكرر فيما بعد كما سنرى في أكثر من عهد ـ وحين انعقد مجلس الرقابة في صيف 1968 لمناقشة أزمة فيلم (قصر الشوق) بحضور الأعضاء عالم الاجتماع الدكتور حسن الساعاتي وعالم النفس الدكتور مصطفى زيور والصحفيين سامي داود ورجاء النقاش وأمينة السعيد والمخرج أحمد بدرخان وحسن عبد المنعم واعتدال ممتاز، قرر مجلس الرقابة بالإجماع منع تصدير الفيلم، وبدا جلياً عدم قدرة أعضاء المجلس على التفريق بين رفضهم للمستوى الفني للفيلم وبين قيامهم بمنعه من أن ينال فرصته في أن يصل إلى المشاهد ويحكم عليه دون وصاية من أحد، بل وتبارى أعضاء المجلس في التنديد بالفيلم وصناعه، فقالت أمينة السعيد مثلاً إن "في خروج هذا الفيلم للعالم العربي جريمة في حق مصر لا تغتفر، لأن الفيلم لم يظهر إلا الجانب الجنسي، برغم أن الفترة الزمنية التي تناولها الفيلم كانت فترة وطنية"، وأيد الدكتور مصطفى زيور منع تصدير الفيلم لكي يكون ذلك "درسا لكل مخرج يبتعد عن النص الأدبي"، واقترح الدكتور حسن الساعاتي كحل للمشكلة "أن يلقي نجيب محفوظ بكلمة في أول الفيلم للتعريف بالعصر الذي قامت الرواية فيه وحتى لا يحدث خلط لعامة الجماهير بين الماضي وحاضرنا".

أما نجيب محفوظ فبرغم كونه عضواً في مجلس الرقابة، فقد اعتذر عن حضور جلسة التصويت على الفيلم قائلاً إنه يرى "أنه إن كان للرقابة أن تمنع تصدير الفيلم لكان لها أن تمنع عرضه في الداخل لا أن تسمح له بالعرض ثم تمنع تصديره"، وهنا رد المجلس على طلبه أفضل رد، حين قام بتكليف اعتدال ممتاز "بحذف وتهذيب بعض المناظر من الفيلم بالنسبة للعرض المحلي"، بالإضافة إلى منعه من التصدير إلى الخارج، ليتم إنقاذ الفيلم فجأة بفضل وزير الاستعلامات الغيني الذي تصادف أن شاهده خلال زيارة له إلى مصر، فأعجبه كثيراً ونقل إعجابه إلى وزير الثقافة معبراً عن رغبته في استيراد نسخ من الفيلم للعرض في غينيا، وهو ما اتخذ منه وزير الثقافة ذريعة لتمرير قرار تصدير الفيلم لجلب عملة صعبة لمصر، وهو طلب كان يصعب على الرقابة أن تجاهر برفضه، ولذلك تم تصدير الفيلم إلى بيروت والعراق وقطر والسودان وسورية وتونس والكويت وليبيا وعدن وماليزيا وأبو ظبي والجزائر والسعودية، وهو ما اعتبرته اعتدال ممتاز "ظلماً للرقابة المغلوبة على أمرها".

تدافع اعتدال ممتاز في مذكراتها عن قرار وزارة الثقافة وجهاز الرقابة التابع لها بالتدخل لتحديد مصير الأفلام طبقاً لمستواها الفني، برغم مخالفة هذا القرار لقانون الرقابة ولوائحها، مبررة ذلك بأنه يدخل في نطاق مسؤولية وزير الثقافة السياسية عن أعمال وزارته، والتي تجعله "يحسب ردود الفعل في الداخل والخارج خاصة إذا استقر في تقديره أن ردود الفعل هذه ستؤدي إلى الإساءة إلى البلد"، ولأن تلك المسؤولية السياسية كانت مطلقة السراح وتفتقر إلى وجود أية ضوابط منطقية، فقد جعلت الوزير ورجاله يتحكمون في مصير ما أنتجته الدولة من أفلام سينمائية أنفقت عليها آلاف الجنيهات وكان من شأن ذلك الوضع المريب أن يؤثر بالتبعية على أداء من تبقى من منتجي القطاع الخاص الذين حاول بعضهم الاستمرار في الإنتاج، بعيداً عن سيطرة الدولة على الإنتاج، ولأن هؤلاء لم يكن بإمكانهم الاستغناء عن أرباح تصدير أفلامهم إلى خارج مصر، فقد حرص كل منهم على الالتزام بالمعايير الرقابية على أكمل وجه، التي لم تكن تجد مشكلة مع الموضوعات المعقمة منزوعة الأنياب والخالية من أي شبهة نقد اجتماعي فضلاً عن شبهة نقد سياسي، وحرص هؤلاء المنتجون على أن يصبح كل منهم رقيباً على من يعملون معه من كتاب ومخرجين وممثلين، تجنباً لأي خسائر مادية يمكن أن تحل بهم إذا تم منع تصدير أفلامهم إلى الخارج.

لذلك، لم أستغرب حين قرأت الأجزاء التي نشرت من مذكرات المستشار والناقد السينمائي مصطفى درويش عن فترة عمله كرقيب على المصنفات الفنية في الستينيات، فلم أجد فيها أي ذكر لتهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" أو "سمعة الجمهورية العربية المتحدة"، بل إنه حين روى تفاصيل محاولات الدكتور عبد الرازق حسن رئيس المؤسسة العامة للسينما لعرقلة إنتاج فيلم (المومياء) للمخرج شادي عبد السلام، أشار إلى أن الدكتور عبد الرازق حسن حاول لأكثر من مرة إقناع مصطفى درويش بكتابة تقرير رقابي ضد السيناريو لأنه يقف ضد مبادئ القومية العربية، كما حاول عبد الرازق حسن اتهام شادي عبد السلام بالتحالف مع الغرب المعادي لمصر الإشتراكية، ممثلاً في شخص المخرج الإيطالي الكبير روبيرتو روسيلليني الذي كان معجباً بمشروع شادي عبد السلام وداعماً له، ولأن تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" لم تكن تتردد كثيراً في تلك الفترة التي أحكمت الدولة فيها قبضتها على الثقافة والفنون، فإن تلك التهمة لم تخطر على بال عبد الرازق حسن وهو يحاول إيقاف فيلم شادي عبد السلام، وإلا لكان قد سعى ربما إلى تدبيج تقرير عن تشويه الفيلم لسمعة المصريين الذين يتاجرون في آثار أجدادهم، ويفضل بعضهم "عيش الضباع" على كل ما سواه.

.....

نكمل غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.