عن صعود الفاشيّة الجديدة: ليست أوروبا وحدها!

عن صعود الفاشيّة الجديدة: ليست أوروبا وحدها!

11 يناير 2024
+ الخط -

يحدث أن يشعر المقهورون بالدونيّة، خاصّة في عصور الاضمحلال، ويتطلّعون لانتحال نحلة القاهر بحثًا عن تمايزٍ يهوّن قهرهم، أو تفتيشًا عمّن يعوّضون فيه قهرهم ذاك في "متتالية" لا نقطةَ ختام لها، ولن تُثبتُ لهم تمايزًا يسعون إليه، ولا تنقذهم من الوحل الذي هم فيه؛ إنّما يرسّخ أكثر ذلك القهر الذي يتعرّضون له.

فإذا كنّا ننظر للصراع بكونه بين "ظالمٍ" و"مظلوم"، وأنّّ مصالح الظالمين تتّفقُ على استغلال المظلومين ابتداءً، وتوريطهم لخدمة هذه المصالح، ومن ثم الغرق في الاستغلال وقيوده أكثر فأكثر، وإذا كنّا ندرك وحدة المصالح تلك في ظلال النيوليبراليّة الأميركيّة وتبعاتها الاجتماعيّة والسياسيّة كما الاقتصاديّة، أدركنا لزامًا وحدة التضامن بين الشعوب المستغلّة والمقهورة، باعتبار الصراع في جوهره صراعًا جمعيًّا (كلّ ظالم أمام كلّ مظلوم)، لن ينجو فيه أحدٌ وحده، كما لن يسقط فيه طاغية وحده؛ هذا سيُلاحَق، وهذا سيخلفه غيره.

تبدو مقدّمة نظريّة أكثر مما يُحتَمل، لكنّها لازمةٌ قبل التنبيه لتصاعد موجات كراهية منظّمة وجماعيّة ضد الأشقّاء السوريين تارةً، والفلسطينيّين تارة، والسودانيين. لم يبدأ الأمر بحملات مقاطعة محلّاتهم التجاريّة أو دعوات طردهم من البلاد، كنوع من العقاب الجماعي على جريمة وجودهم، كما لن ينتهي في تصوّري عند هذا الحدّ من الحقارة والإرهاب.

فالسلطة باختلاف مستوياتها رسّخت التعامل مع غير المصريين منذ لحظات مبكّرة باعتبارهم "عدوا" إلى أن يثبت العكس، فقط لتمنح تلفيقاتها اللامنتهية لمجموعات معارضة بتكوين مليشيات أو تلقّي دعم وتمويل دولي، أو لتروّج أكاذيبها بمبرّرات جديدة قد تنطلي على الجماهير المغفّلة التي تستهدفها، أو حتى لتبرّر خيباتها المتتالية وفشلها الراسخ في إيقاف الانهيار الذي أصاب البلاد على أيديهم، وما زال مستمرًّا في كلّ الحقول.

الكراهية سعارٌ قد يبدأ بنهش الآخر، لكنّه سينتهي بنهش الذات

صحيح لم تزل تلك الحملات القبيحة في صورتها الأولى، الكلاميّة والافتراضيّة، لكنّ تنظيمها وجماعيتها والمساندة الواضحة لها من إعلاميين رسميّين، تمامًا كما توقيتها، ينذران بما هو أخطر، لأنها لا تشير فحسب للعوَز والحاجة بسبب الضائقات الاقتصاديّة أو محاولات الهرب من واقعٍ بغيض أو لسوء سلوك ووقاحة تجاه الأهل والأشقاء من غير المصريين، والذين يقيمون ويستثمرون ويعملون ويدرسون، كما المصريين المقيمين في بلاد الدنيا للأسباب ذاتها، بل وتستفيد السلطة منهم (كعادتها) بالسمسرة واستخدامهم كورقة ضغط على الأوروبيّين لاستجلاب المزيد من المساعدات والهبات والمنح، التي لا تُصرف عليهم بالضرورة.

لسيت سوء سلوك فحسب (كما قلت)، إنّما (وهو الأخطر) خلل بنيويّ في تكوين هذه الشخصية وارتداد بها على تاريخها القريب والبعيد (انظر مثلاً لما قدّمه أهلنا الشوام للثقافة والفن والأدب والمطبخ المصري)، وهذا كلّه بعد هزيمة مروّعة لأحلام الأجيال الحيّة (على اختلافها وتناقضها)، وعشر سنين من طمس كلّ معنى وقيمة كانت راسخةً في هذه الشخصيّة، وحشرها في مستنقع من الحرمان والتحريض والقمع سبقته مذابح وانهيارات قيمية جماعيّة، أفقدتها توازنها، وتركتها قابلة لتوجيه طاقتها (من السلطة) تجاه فريق آخر من المقهورين بدلاً من اتّحادهم في لحظةٍ ما.

تصوّر الدولة وصبيانها أنّ حملات الكراهية هذه يمكن أن تبقى تحت السيطرة لابتزاز الأموال الأمميّة والغربيّة، أو لتمرير خيباتها وفشلها، تصوّرٌ جاهلٌ وخطير

هذه الكراهية المتجهة ضدّ الأهل والأشقّاء، تسير في غير مسارها الطبيعي، تمامًا كما تتلبّس غير وجهها الحقيقي؛ لأنّ السلطة صاحبة الحقّ الحصري فيه، ولأنّها تستخدم القوميّة والوطنيّة كاستعارات زائفة عن الفاشيّة التي تحمل جوهرها في خطابها وسلوكها، وتتجه بنا نحو مآلاتها المروّعة، والتي أنتجت مثيلاتها عشرات الملايين من الضحايا في أوروبا وغيرها.

وتصوّر الدولة وصبيانها أنّ هذه الحملات يمكن أن تبقى تحت السيطرة لابتزاز الأموال الأمميّة والغربيّة، أو لتمرير خيباتها وفشلها، تصوّرٌ جاهلٌ وخطير، لأنّها لن تُلهي عن حقيقة الوضع وأسباب الفشل فيه، كما لن تمرّر ما يتم تحضيره للناس من "خوازيق"، كما أنّ المجتمع مقسومٌ على ذاته ومشحونٌ بالثارات منذ عشر سنين، ولن يقيّد انفجاراته الموجّهة تجاه "الغرباء" قيدٌ.

فالكراهية سعارٌ قد يبدأ بنهش الآخر، لكنّه سينتهي بنهش الذات.