برزخُ الخسارة

برزخُ الخسارة

15 فبراير 2024
+ الخط -

لم تعد تصدمني وفاةُ صديق، كلّما صدفني النبأ. لم تعد تصدمني وفاةٌ مطلقًا. هي فقط تحفر ذلك الخرق في روحي الذي لا قاع له، يبدو ولا احتمال وصول.

ليس تفلسفًا، بل لوثَة. لعنة تُقَرُّ فيَّ كنبوءةٍ، أنّ جيلنا كلّه لن يتمكّن من مواصلة الحياة كلِّها، لا الحياة الطبيعيّة الهادئة فحسب، بل الحياة مطلقًا. أيّ حياةٍ على أيّة صورة.

إنّ الذين تشرّبوا مثل هذا الموت واستنشقوه مع كلّ نفّسٍ، طاولهم ما لا فِكاك منه، وأنّ شيئًا سُمّيّاً خبيثاً وقاتلاً تسلّل إلى أجسادنا فور ما وقعت الهزيمة واستقبلتها أرواحنا، فأعمل فيها سمّه بلا توقّف ولا فرصة للتشافي (هذا عن خسارتنا نحنُ، هنا، في معركة الحلم.. فما بالنا والحاصل في فلسطين هو الحاصل، ونحن نتابعه على الهواء، لحظةً بلحظة، بلحمه ودم أشلائه المتناثرة؟)، وكأنّها عملية "إعادة تدوير" للخسارات الكبرى: واقعًا، روحًا، جسدًا، واحدةٌ تسلّم الأخرى فينا أو تسلمنا لها.

تتغيّر صورتها في كلّ انتقالةٍ دون جوهرها، بما يُناسب طبيعة المستقبِل في كلّ لحظةٍ. لكنّها دومًا مرئيّة ومحسوسة ومتجسّدة، يمكنك شمّها، لمسها، والتوجّع منها بلا انتهاء ولو تُخمةً وتفجّرًا، أحسّها بداخلي تتضخّم، توجع، وتخنق ككتلةٍ ماديّةٍ أحسّها، لا مجرّد مجاز. 

وأعلم أنّ التهامها لي "كلًّا" مسألة وقت، بانتظار كشفٍ لا باحتمالِ حدوث. تمامًا كما يشعر الرفاقُ حولي، سواء أعلنوا أو كتموا.

"الحق أخرج م البلد عشان جسمك يكشف عن اللي جوّاه، أنا اكتشفت ورمي أوّل ما وصلت باريس، رغم كلّ الفحوصات اللي عملتها في مصر؛ البلد مش بسّ قامعانا احنا، أجسادنا كمان حاسّه ومقموعة ومش هتعلن عن شكل المصيبة اللي فيها غير لما نخرج منها". قالها رفيق الثورة والمعتقل في مكالمةٍ بيننا مؤخّرًا، وأنا أطمئنُّ على ما اكتشفه الأطبّاء فور سفره بعد اعتقالٍ سنين.

كانت "الرصاصةُ" (تلك التي تقتل) تجلّيا فوريّا مباغتا. فضلها مباشرتها، لا التباسها وتزامن إسقاطها للجسد مع إسقاط مطلقها للحلم.

حسبةٌ واضحةٌ ميسّرة: شهيد في معركة على يد السلطة "آدي الجُرم وآدي المجرم". فيها شيءٌ مغرٍ للسرد، صادمٌ، وربّما خالد: يؤسطرُ ويتعالى على الوجود الإنسانيّ التفصيليّ العادي، يُشبه الحكاية صعودًا وانخطافًا. لن يمحوه النسيان، ولن يُغبّره الاعتياد. يفرِضُ نفسه ولو تتالت الانخطافات، يُبقي لكلّ جيلٍ حصريّة بطولته ورمزية أبطاله.

أمّا تجسّدها عِلّةً، قعودًا أو حبسًا. تلك صورتها الملتبسة، التي تطمسها التأويلات وتهينها بشريّة التفاصيل. تستحيل عبئًا، بعد أوّل الحماس وفورة التعاطف، إلى أن تمّحي رويدًا رويدًا؛ كأن لم تكن. والأبشع: أن تبقى منها في الذاكرة نسخة شوهاء، في برزخ التحوّل، لا فراشة أصبحت ولا دودة ظلّت.

لا تُشبه الحلم ولا الحالم في شيء. وعند القاتل؛ لن تُشعره بإنجازه، وقد ينسى أنّه استهدفها يومًا. وعند الصحب؛ لن توقد ثأرًا أو تفجّر غضبًا، وقد ينسون أنّه ثأرهم هو الآخر. ولن تخلّف إلا رتابة النزف البطيء وحسرة الانزواء... فاللهم دفعة واحدة.