البقاء على أمل الثأر

البقاء على أمل الثأر

22 فبراير 2024
+ الخط -

الحروب الصليبيّة، الاحتلال الإنكليزي، الحرب العالميّة، الحرب الإسبانيّة، صراعات الداخل، ومعارك الثورة.

في ذهني ألف صورةٍ لمتحاربين خصوم وهم يلعبون الكرة، الكوتشينة، يحتفلون بأعياد الميلاد، يصلّون معًا، يتبادلون السجائر.. أو حتى يتبادلون صور الأهل وذكرياتهم، في لحظة هدنةٍ أو ضجر.

ليست صورًا سينمائيّة قصدتُ إنّما واقعٌ سجّله أو حكاه من عاشوه -متنًا أو هوامش-يحتشد في التقارير والتسجيلات والسير الذاتيّة.

وفي تجربتي ألف صورة أُخرى كذلك مُشاهِدًأ أو مُشاركًا على اختلاف درجة العداء، حسب طبيعة كلّ صراع: في فلسطين على حواجز العدوّ، في فلسطين على حواجز السلطة، في لبنان انتقالاً من تمركزٍ طائفيٍّ لآخر، في الميدان مع الخدمات الثابتة (جيشًا وشرطة)، في غرف التحقيق وفي السجن مع خصوم حشرتنا يد القدر في ذات الحيّز سويًّا دون اختيار.. أو مع السجّانين/الجلّادين أنفسهم.

لهذا يحرص العدوّ على "تجويت" جيشه (ومجتمعه) عن الانخراط المباشر مع أصحاب الأرض؛ هذه حربٌ سيخسرها يقينًا، لا عسكريًّا فقط.

الفارق أوضح من القدرة على إنكاره بين لحظات الصراع الخاطفة والتواصل اشتباكًا حصرًا وبين حروب الخنادق والصراعات الرتيبة التراكميّة التي يراهن أطرافها على الزمن، ليحسم هو استنزافًا أو يستتروا خلفه تجهّزًا للحسم.

في الأولى تشتبك القوّة، الخطّة، والالتزام.

وفي الثانية يشتبك الخطاب وترتبك المشارع.

في هذه يُعتمد على الضربات نفيًا أو نسفًا.

وفي تلك يُعتمد على التواصل انخراطًا أو تحييدًا.

لا أعني هنا بذلك الميدان النفسي والثقافي امتدادًا للمعركة أو جزءًا منها، إنّما ذلك الهامش المتخلّق غصبًا دون قرارٍ من أيّهما، وربّما دون الدخول في حسابات المعارك؛ هو يوجد وينمو كأنّما مكتفٍ بنفسه وناءٍ بها عن الصراع الذي أوجده أصلاً أو سمح له بالتكوّن على هامشه.

هذه ليست رسالة في المحبّة والسلام كسلاح، إنّما نقيض ذلك بصورةٍ ما، رغم كوني أبشّر بهما لكن على غير حساب الحق الذي لم يتم الوفاء به بعد.

المعارك الطويلة تطبّع العلاقة بين الخصوم.

تنشئ بينهما ألفة، ولو اضطراريّة وزائفة، وتعيد صياغة خصومتهما تلك.

لكن أن يألف أيّهما غياب الحق الذي يحارب لأجله. مفزعٌ هذا.

لا أخطر من فقدان حقّك، تلك الجذوة الملتهبة التي تسكن أحشاءك، وانطفاؤها يطفي وجودك.

الحقد الذي وحده يعينك على الاستمرار في الحياة، ولو لم يعد لديك رغبة فيها.

لا مبرر لديك في البقاءِ إلا ثأرًا قادمًا، ولو بعيدًا.

أما التخلّي عن هذا الحقد، فيفقدك كنهك لا حقّك وحده، يهدّد وجودك كلّه.

لهذا؛ أبقي تجربتي وحرّيتي أمام عينيّ،

تلك التي جرّبتها وانخطفت منها،

وتلك التي أبنيها خيالاً يهوّن اللحظة،

أحاصر حاضري بهما كي لا يفترسني ولو اعتيادًا،

أتقوّى بالفائت على الآني وصولاً للآتي.. وأتذكّر؛ أُجبر ذهني على الاستعادة كطقسٍ يوميّ (لا فائت يُستعاد أصلاً).

وفي هذا وذاك، أُدرك أنّ آخر أتشكّله بالوقت والتجربة، ربّما لا يشبه من كنته إلا قليلاً.

أنشغل باستحقاقه لما أؤمن به وأتطلّع إليه.

أجتهد لبنائه محبًّا صادقًا شجاعًا متجرّدًا.. وإنسانًا

مهما وقع في نقائض ذلك، مرّة واثنتين.. وأكثر

أحمل همّ أنسنته في مواجهة ظرف (وظارف) لا إنسانيين مطلقًا.

أًقاتل يوميًّا كي لا يستجيب لوحل الكره والتوحّش اللامنتهي.

وقبلها: أقاتل كي لا يقع في فخّ التطبيع؛ كي لا يهلك ويهلكني معه.