مُوندِيالُ الفَتَاوَى

مُوندِيالُ الفَتَاوَى

29 يونيو 2014
+ الخط -

أعجب ما يمر به العقل المصري، في هذه الأيام، سواء على مستوى الفعل السياسي، أو الحراك المجتمعي الذي شهده الوطن، منذ اشتعال انتفاضته الشعبية في يناير/كانون الثاني 2011، هو هذا الآتي من ضرورة قراءة المشهد ضمن سياقه التاريخي.
إذا حاولنا إعادة قراءة المشهد المصري، تواجهنا مشكلة فصل التراث عن سياقه المعاصر، من أجل تحقيق مصالح، أو مطامح شخصية، وهو ما تم في عهد البرلمان السابق المنحل. لذا، بدت الديموقراطية، طوال ثلاث سنوات، حائرة في استخدام التراث وتوظيفه، وبات أقرب إلى الذهن مبادرة تحريم كل ما هو طارئ، أو وافد، أو مستحدث، على صعيد المشهد السياسي والاجتماعي.

في ظل ذلك كله، يطل علينا الخطاب الديني من جديد، ليس بوصفه نصاً يعالج قضية تراثية، أو مشكلة معاصرة معينة، بالاستناد إلى نصوصٍ سلفية وتراثية، بل نصاً متداخلا ومستعملا من خطابات سياسية مصلحية متعددة تستند إليه.

يبدو الخطاب الديني، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، قراءاتٍ سلفيةً تتكئ على الماضي، وتستند إليه، بغير اهتمام مباشر بواقع مشهود. هنا، تبرز مشكلته مع مستجدات المشهدين السياسي والاجتماعي، ويظهر الصدام بينه وبين واقعه باحتدام، أو كما وصف محمد عابد الجابري هذا الخطاب، بالتخلي عن الفهم التراثي للتراث، لكنه عمد، في ذلك، إلى التخلي عن رواسب القياس النحوي الفقهي الكلامي، والتي تعمل، بالتالي، على تفكيك الكل، وفصل أجزائه عن إطارها الزماني المعرفي والأيديولوجي.

في ظلال هذا المشهد، يقف ملايين المصريين في حيرة من أمرهم، بفضل فوضى الفتاوى وهوس الافتراءات التي يلقيها كل فريق على كاهل الآخر، وربما يدفعهم افتقار كثيرين إلى الحدس والاستبصار يدفعهم إلى مزيد من الفوضى. لكن، هذه المرة في السلوك وليس الفكر.

كل خطاب بات على لهفةٍ لتصيد أخطاء الخطاب الآخر، وهي المشكلة الأزلية، أو العقدة التي لا حل لها بين الأنا والآخر، وصار المواطن العادي فريسةً سائغة لكل خطابٍ يسعى إلى استقطابه واستلابه، وبين الأصالة والحفاظ على تراث السلف، وبين ضرورة التنوير والحداثة ضاع الاجتهاد والفقه، وبدلاً من أن يترشد الخطاب الديني، استحال نصاً سياسياً.

يمكن للتنوير أن يبزغ نجمه من تراثه القديم، كما أنه يجوز توظيف التراث بما يتناسب مع وقائع الحاضر واستشراف المستقبل، إضافة إلى أن الخطاب الديني الذي أغرق تفاصيله في المشهد السياسي، يمكنه إيجاد مساحةٍ مناسبةٍ له على خارطة التجديد، إذا التزم بالابتعاد عن نعرات التعالي، والعزوف النهائي عن تنطع الغلو، سواء في التكفير، أو التهميش، أو التسفيه للآخر المخالف معه في التوجه والرؤية.

الخطاب الديني الذي تسعى المؤسسة الدينية الرسمية إلى تطويره، ينبغي أن يهتم، أولاً، بالفكر الديني وتنقيته من رواسب ظلت عالقة به عقوداً، وهذا يتطلب أن يتحول الخطاب الديني إلى مشروع فكري، وأن يتفرغ هذا الخطاب، ولو نسبياً، إلى القضايا الدينية والفقهية المعاصرة، مستنداً إلى أسسه الداعمة، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

أبرز أزمات الخطاب الديني المعاصر أنه اصطبغ سياسياً، فصار أيديولوجياً أكثر منه دينياً، واستحال يعالج مشاهد السياسة أكثر مما يتناول أمور العبادة والمعاملات الدينية، بل يمكن رصد ملامح الخطاب الديني في السنوات العشر الأخيرة بأنه خطاب سياسي ذو توجه ديني.

يستطيع الخطاب الديني الذي ننشده أن يعيد ترتيب العلاقات بين المواطن والفكر الديني، الذي يتوافد عليه من كل فج عميق، وأن يُسلِّح هذا المواطن بسياجٍ قويٍّ متين يقيه من الأفكار التي تخالف سماحة الإسلام نفسه، فالخطاب الديني إصلاحي في المقام الأول، وفي مقامه الثاني يصير خطاباً تصحيحياً لكل فكر مغلوط وكل رأي فاسد. وكثيراً ما أشار مفكرون عرب معاصرون إلى ضرورة ترشيد الخطاب الديني من الولوج في التيارات السياسية ونظرياتها، ما دفع كثيرين إلى التطرف الفكري، والذي صاحبه عنف وإرهاب ضد المخالف في الرأي، ليس هذا فحسب، بل إن خطابنا الديني المعاصر، قرر اعتزال الإصلاح الديني، حينما تفرغ كلياً نحو تفسير المشهد السياسي، وصار الداعية والشيخ والفقيه ناشطاً سياسياً، في وقتٍ نحن أحوج فيه إلى داعية مستنير، وفقيه مجتهد بصير.

ترشيد خطاب الإسلام السياسي لا يعني، بالضرورة، فصل الدين عن الدولة، لأن الدين يمتلك القدرة على معالجة كل مجالات الحياة، لكن الترشيد يشير إلى ضرورة أن يعتني هذا الخطاب بالأمور الدينية التي يجهلها المرء، ويوليها ما تستحق من اهتمام، وإذا كان الدين حاضراً بقوة في سياقات المجتمع، يلزم أن يتضمن الخطاب الديني فكراً رشيداً، لا يتسبب في فوضى اجتماعية، وخلل يقوض المجتمع. لذا، الأحرى وجود ضوابط وشرائط حاكمة لهذا الخطاب، تقيه من الزلل وتحمينا من اللغط.

  

 

avata
avata
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)