من نماذج التطرف "الوسطي" الجميل

من نماذج التطرف "الوسطي" الجميل

02 ديسمبر 2015

فقه السنّة لسيد سابق موجود ببيت كل مسلم تقريباً

+ الخط -

2 ـ "وقد قرّر الإسلام عقوبة معجّلة في الدنيا للمرتد، فضلا عمّا توعّده به من عذابٍ، ينتظره في الآخرة، وهذه العقوبة هي: قتل المرتد... وإن قتله أحد من المسلمين لا يُعتبر مرتكباً جريمة القتل، ولكن يُعزّر لافتياته على الحاكم".

للأسف، لم ترد هذه العبارات في أحد الكتب التي يتبناها وينشرها داعش والقاعدة وإخوتهما من العصابات الإرهابية، بل وردت في الجزء الثاني من كتاب (فقه السنّة) للشيخ سيد سابق، والذي يعتبره الكثيرون حجة في مجال الفقه الإسلامي، ولا أظن أن الأخ الذي وصف نفسه بـ(المتبحّر في الفقه) ـ والذي حدّثتك عنه بالأمس ـ كان مبالغاً، حين وصف الكتاب بأنه موجود في كل بيت مسلم. بالطبع، هناك كثيرون يضعونه في مكتباتهم من دون قراءته، كما هو الحال مع كثير من كتب التراث، لكن كثيرين أيضا يقرأونه بشغف واهتمام، ويمنحونه تقديراً كبيراً، ولعلّك تعرف أن السعودية منحت كاتبه جائزة الملك فيصل العالمية، لجهوده في خدمة الفقه الإسلامي، وأن جماعة الإخوان المسلمين تقوم بتدريسه لأعضائها في برامجهم التأهيلية، وتوصيهم بنصح الآخرين به، لأنه يقدم عرضاً وافياً لآراء فقهاء السنّة في القضايا والإشكاليات كافة، ويرجّح منها ما يراه متفقاً مع الواقع المعاصر، ولا يقتصر الأمر على "الإخوان" وغيرهم من أنصار تيارات الشعارات الإسلامية، فهناك مسلمون عاديون كثيرون يعتبرون كتاب (فقه السنّة) معبّراً عن الفقه الوسطي المعتدل، مع أن الخلاف بين ما يطرحه (فقه السنة) في مسألة قتل المرتد وما تطرحه وتقوم به التيارات التكفيرية الإرهابية ليس إلا خلافاً في درجة التعامل مع القاتل، وليس خلافاً مع مشروعية فعل القتل نفسه، ولا تجريماً للاعتداء على حريات العقيدة والرأي والتعبير، التي أصبحت حقوقاً مقرّرة للإنسان في هذا العصر.
(ينبغي التذكير بأن علاقة الشيخ سابق بجماعة الإخوان مرّت بتطورات درامية، بدءاً من كونه واحداً من شبابها، ثم مفتياً لتنظيمها الخاص، حيث تم اتهامه بالإفتاء بجواز قتل محمود فهمي النقراشي، ثم تمت تبرئته قضائياً من التهمة، لينشق عن جماعة الإخوان في أثناء خلافها مع عبد الناصر، ويعمل في وزارة الأوقاف، فيتعرض للتكفير من بعض متشددي الجماعة، وربما لذلك ستجد في كتابه تأصيلاً شرعياً لتحريم حمل السلاح على الحاكم، والخروج عليه، لكن علاقة سيد سابق بالإخوان عادت لتصبح حافلة بالود والتقدير، منذ فترة السبعينات وحتى وفاته، خصوصاً بعد أن تبنت الجماعة كتابه مرجعاً فقهيّاً لأعضائها ومحبيها).

في معالجته قضية قتل المرتد، يحرص الشيخ سيد سابق على أن ينبّهنا إلى وجود آراء مختلفة لبعض الفقهاء، في تفاصيل تخص قتل المرتد، كاختلافهم في مدة استتابة المرتد، أو خلافهم في مسألة قتل المرأة المرتدة، حيث لا يبيح أبو حنيفة قتلها، لأن النبي (ص) نهى عن قتل النساء، وهو رأي يختلف معه سابق، مذكّراً بأن جمهور الفقهاء يرفض ذلك الرأي، ويكفل "المساواة في القتل" للمرأة المرتدة مع الرجل المرتد. وفي موضع آخر، يورد سابق فتوى "شديدة السماحة" لا تكتفي بقتل المسلم المرتد فقط، بل وتقضي، أيضاً، بقتل الكافر إذا أراد أن يبدّل دينه، إلا إذا بدّله إلى الإسلام، لكنه يضفي على تلك الفتوى المتشددة لمسة مدهشة من السماحة، حين يضع إلى جوارها فتوى للإمام الشافعي، ترى أن من حق غير المسلم أن ينتقل إلى مثل دينه، أو أعلى منه، يعني أن من حق اليهودي والنصراني أن ينتقل إلى الإسلام فقط، فإذا انتقل إلى المجوسية، لم يتم السماح له بذلك، لأنها ديانة أدنى، ولذلك، هو يستحق العقوبة التي تقع على المسلم الذي يترك دينه الأعلى إلى دين أدنى.   

لا يكتفي الشيخ سيد سابق بعرض آراء الفقهاء المنتمين إلى عصورٍ قديمة، بل يحرص على أن

يضيف لمسته الحديثة إلى فتاوى قتل المرتد، فيقدم تبريراً لها، لعلّه تصوّر أنه سيفحم كل من يسمعه، من فرط عقلانيته ومنطقيته، حيث يقول إن الإنسان، حين يصل إلى مستوى الارتداد عن الإسلام، "يكون قد ارتد إلى أقصى درجات الانحطاط، ووصل إلى الغاية من الانحدار والهبوط، ومثل هذا الإنسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه، لأن حياته ليست لها غاية كريمة، ولا مقصد نبيل". ولكي يظهر الشيخ سابق تأثره بالواقع المحيط به، ويثبت أنه ليس بمعزل عن فترة الخمسينات من القرن العشرين، التي كتب الكتاب خلالها، يكتب الشيخ سابق: "إن الخروج على الإسلام والارتداد عنه إنما هو ثورة عليه، والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية، فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة، إن أي إنسان، سواء كان في الدول الشيوعية، أم الدول الرأسمالية، إذا خرج على نظام الدولة، فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده، والخيانة العظمى جزاؤها الإعدام، فالإسلام في تقرير عقوبة الإعدام للمرتدين منطقي مع نفسه، ومتلاق مع غيره من النُّظُم"، ولا أدري كيف تصوّر الشيخ سيد أنه يدافع عن الإسلام بكلامه المليء بالمغالطات، ولا كيف لم ينتبه إلى أن كلامه، مثلاً، يبرّر ويشرعن الجرائم التي ظلت تُرتكب، طوال عقود، ضد المسلمين في الاتحاد السوفييتي والصين، لمنعهم من ممارسة حقهم في الاعتقاد، بوصفهم خارجين على نظام الدول. لكن كلامه، في الحقيقة، يتّسق مع طريقة تفكير أغلب أنصار تيارات الشعارات الإسلامية الذين لا يحلو لديهم الاستشهاد بالغرب أو الشرق، إلا لتبرير مواقفهم المؤيدة للتسلّط على حياة الناس، وهم يلتقون في طريقة التفكير تلك مع أعدائهم من السلطويين، من أنصار "القمع والفرم حفاظا على النظام"، والذين لا يحلو لهم الاستشهاد بالخارج، إلا في ما يبرر القمع أو يقلّل من شأن الفساد.  

في موضع آخر من كتابه، يتحدث سيد سابق عن الشروط التي تجعل المسلم مرتداً، فلا يكتفي بذكر الأسباب الشائعة في كتب التراث، مثل "إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وادعاء الوحي واستباحة المحرّمات"، بل يضم إلى ذلك عبارات فضفاضة، مثل: "سب الدين والطعن في الكتاب والسنّة، ترك الحكم بالقرآن والسنّة وتفضيل القوانين الوضعية عليهما، الاستخفاف باسم من أسماء الله الحسنى، أو أمر من أوامره، أو نهي من نواهيه، أو وعد من وعوده"، وهي عبارات مطاطة، يمكن استغلالها بسهولة للحكم بالردة، على عدد مهول من البشر، بدءاً ممّن يسبّون الدين في خناقة غاضبة، وانتهاءً بمن يحرصون على وضع أموالهم في البنوك، أو من يحتكمون إلى القوانين المطبّقة في البلاد، والتي يصفها بالقوانين الوضعية، ومروراً بمن يقدمون اجتهادات يعتبرها بعضهم طعناً في الكتاب والسنّة. وبالطبع، لا يمكن أن تفصل خطورة هذه العبارات، عن تلك الفقرة القاتلة التي يسقط فيها سيد سابق تجريم القتل، عمن يقيم الحد على المرتد بنفسه، لكي يتم الاكتفاء بتعزيره، لأنه افتأت على حق ولي الأمر في استتابة المرتد، وهو ما يكفل له الإفلات من المعاملة كمجرم، ليتم التعامل معه بوصفه مخطئاً فقط، ما يعني أن كل أنصار داعش والقاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابية، لو حوكموا بمنطق سيد سابق وكتابه (فقه السنّة) المعبّر عن الفقه الوسطي، سيحصلون على أحكام مخفّفة، ومن يدري، ربما لو حوكموا أمام قاضٍ شامخ في وسطيته، لاكتفى بلومهم وتقريعهم وشد آذانهم على الملأ، بوصف ذلك يدخل تحت معنى (التعزير) الفضفاض.

ليست المشكلة فقط في أن كثيرين ممّن يستنكرون أفعال داعش والقاعدة يقتنون كتاب (فقه السنّة) وأمثاله في بيوتهم، وينظرون إليها بتوقير وإجلال، من دون علمهم بما فيها، أو ربما لعلمهم بما فيها، كما أن الحل لن يكون في مصادرة كتاب (فقه السنّة)، ولا مئات الكتب التراثية التي يعتمد عليها وينقل عنها، فلم تكن المصادرة أبدا حلاً، خصوصاً وقد كانت قديما وسيلة لتحويل أي أفكار ممنوعة إلى أفكار مرغوبة، فكيف الحال بها، إذن، في عصر الإنترنت، الذي أصبحت فيه كلمة (ممنوع) وسيلة سحرية لضمان انتشار أي فكرة أو رأي أو صورة أو فيلم، ووصولها إلى ملايين البشر. المشكلة الحقيقية أنه لا أحد يهتم في وسائل الإعلام الجماهيرية بتسليط الضوء على ما تحفل به هذه الكتب "الوسطية" من أفكار متشددة، ومناقشتها، لكي يتبيّن الناس خطورتها، بدلا من دفن الرؤوس في الرمال، وترديد عبارات مستهلكة عن براءة الفقه الإسلامي من تصرفات داعش والقاعدة، كما لا يهتم أحد أيضاً، في الوقت نفسه، بعرض ونشر الاجتهادات الفقهية التي تقوم بتفنيد الفكر المتشدد، والذي يسبغ عليه بعضهم صفة الوسطية، لمجرد أنه أخف وطأة من أفكار تكفيرية أخطر، تتوسع في إطلاق الأحكام بالردة والكفر، بشكل جنوني، إلى درجة أن بعض هذه الكتب يقول، صراحة، إن "من يأتي بلفظة الكفر، وهو لا يعلم بأنها كفر، إلا أنه يأتي بها عن اختيار، فهو يُكفّر عند عامة العلماء، ولا يُعذر بالجهل.. وإذا قيل لرجلٍ صَلِّ، فقال إن أداء الصلاة صعبٌ عليّ يكون كافراً، ومن قال آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم أن آدم نبي أم لا يكفر".  

وإذا كنت تختلف معي في ذلك الرأي، دعني أسألك: كم مرة سمعت أو شاهدت من يوصيك،

مثلاً، بقراءة كتاب (لا إكراه في الدين)، والذي كتبه الدكتور طه جابر العلواني، وناقش فيه (إشكالية مسألة الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم)، ورد فيه على كل ما ذكره سيد سابق وغيره من فقهاء "وسطيين" أو متشددين بخصوص مسألة قتل المرتد. ومع ذلك، حظي الكتاب بتجاهل إعلامي كبير، على الرغم من أن طبعته الأولى صدرت عام 2003 من مكتبة الشروق الدولية، ثم صدرت طبعة ثانية منقحة ومزيّدة منه عام 2006، وقد ذكرت هذا الكتاب الرائع، على سبيل المثال، لأن المقام لا يتسع لحصر كل الدراسات التي ناقشت موضوع الردة من منظور فقهي وشرعي، ومن زوايا مختلفة. ومع ذلك، لا ترى اهتماماً بها وبمؤلفيها، بعكس ما ترى من اهتمام إعلامي مفرط بكل هواة الفرقعة والصخب ومحترفي "إثارة الجدل"، الذين لا يهتم الإعلام بقيمة أفكارهم وأهميتها، قدر اهتمامه بأن تكون مداخلاتهم صالحةً لصنع فيديوهات وأخبار مسبوقة بكلمات من عيّنة "لن تصدّق ما تراه.. فضيحة على الهواء.. شاهد قبل الحذف".

بالطبع، يتطلّب نشر أفكار مهمّة وجادة كالتي يطرحها كتاب العلواني وغيره من الكتب التي أشرت إلى بعضها، أمس، ما هو أكثر من حماس والتزام كاتب هنا أو مذيع هناك، لأن وصول هذه الأفكار إلى أكبر عدد ممكن من الناس في بلادنا، يتطلب، في الأساس، إرادة سياسية واعية تسعى إلى نشر التسامح والعقلانية والتفكير النقدي، ويشترط وجود عقلية حاكمة، تؤمن بقصور الحل الأمني وحده حلاً لمشكلة الإرهاب، وتربط مواجهة الإرهاب بحزمة إجراءات سياسية واقتصادية وثقافية، لن تقضي عليه بالكامل، لكنها ستجفف منابعه، وستقلل شعبيته وانتشاره، لكن الإرادة السياسية التي تحكم بلادنا، فضلا عن تدهور كفاءتها، ليس من مصلحتها حدوث مواجهة حقيقية وجادة للإرهاب، فهي، أصلاً، تستفيد من وجود الإرهاب شبحاً يخيف عموم الناس، ويبرر بقاءها في السلطة، على الرغم من انحطاط أدائها وتواضع إمكاناتها، ويلهي الناس عن محاسبتها ومراقبتها، خصوصاً أن الإرهاب، مهما توحّش واستفحل، لا يمس، في النهاية، جوهر مصالحها المادية. ولذلك، هي تتحالف مع التيارات السلفية المتشددة، وتكفل لها حرية الحركة في المساجد والجمعيات الخدمية، في الوقت الذي تشجع فيه القراءات الاستعراضية الانتقائية للتراث الإسلامي، ليتحوّل الأمر دائماً في وسائل الإعلام إلى صراع ديكة يسر الناظرين ويربكهم، دون أن تكون له علاقة بمخاطبة العقل أو التشجيع على النقد والتأمل والتفكير، لأن العقل حين ينمو ويعمل، لن يفكر فقط في المواضيع التي تفضّلها السلطة، بل سيُعمل التفكير في كل ما له علاقة بحياة المواطن، سواء كان ذلك في شؤون الدين، أم في أحوال الدنيا، وهو ما يمثل خطورة بالغة على كل كهنة وسدنة وحراس الدين والوطنية.  

نختم حديثنا في الغد، بإذن الله.

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.