إسرائيل عدوّنا الأول

إسرائيل عدوّنا الأول

28 نوفمبر 2019
+ الخط -
تبّين في السنوات القليلة الماضية كم هو كبير ومهمّ دور إسرائيل في تثبيت بنية أنظمة الاستبداد العربية. هذا الكيان الاستعماري الاستيطاني الذي قام على مبدأ إلغاء شعب حيّ موجود على أرضه التاريخيّة منذ آلاف السنين، وإحلال شعبٍ آخر مكانه، هو العلّة المزمنة والسرطان المستشري في جسد العرب والعروبة. لقد وجد قادة هذا الكيان في حربهم ضدّ سكّان فلسطين الأصليين حليفاً حقيقياً خفيّاً غير مُعلن، هو الاستبداد والديكتاتوريّات القابضة على مصير الدول العربية خاصّة ذات أنظمة الحكم الجمهوري. 
يقول عزمي بشارة، في محاضرة له بعنوان "الثابت والمتحوّل في الانتخابات الإسرائيلية"، إن "الكيان الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي قام على حكم شمولي في العشرين عاماً الأولى من عمره، واستند إلى مبدأ الهيمنة على المجتمع اليهودي آنذاك، وليس على الديكتاتورية. من خلال السيطرة على عصابة الهاغانا أولاً، ومن ثمّ على الجيش الإسرائيلي ثانياً، وعلى النقابات ثالثاً، وعلى الاقتصاد من خلال السيطرة على القطاع العام رابعاً، كان الحكم يؤمّن الشرعية المطلوبة لاصطفاف جمهور الناخبين اليهود خلفه". ويفرّق بشارة بين هذا النموذج من الهيمنة المؤسسة لشرعيّة داخليّة قادرة على بناء عصبيّة حول هذا الكيان الناشئ والنموذج الديكتاتوري عند الحكّام العرب، القائم على التغلّب بالعسكر والسيطرة بالقوّة الأمنيّة العارية. ويقارن بين قدرة هذا الكيان على ممارسة الحكم الشمولي العسكري القائم على الحرب الدائمة مع العدوّ العربي، وفي الوقت نفسه، قدرته على بناء حريّات سياسية وأحزاب وصحافة وعمل نقابي، ونموذج الحكم الشمولي في العالم العربي الذي قاد إلى الانحطاط السياسي ومصادرة الحقوق والحريات والاستيلاء على الثروات وتدمير الاقتصاد وتفتيت المجتمعات، تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع إسرائيل.
استطاع هذا الكيان الاستيطاني بناء نموذج خاصٍ من الدولة العصرية لبعض سكّانها من اليهود 
المهاجرين، مستثنياً السكّان العرب الفلسطينيّين الأصليين. مع ذلك، هي دولة بالنسبة لهؤلاء قائمة على ركائز الدولة الحديثة في الغرب. الاقتصاد الحر القائم على التنافس والمفتوح والمبني على الإنتاج الزراعي الذي تطوّر، ليصبح فيما بعد صناعيّاً ينافس على مستوى العالم، الاستثمار في التكنولوجيا والبحث العلمي والتطوير في كل المجالات المدنية والعسكرية، السياسة البراغماتية المبنية على تأمين البنية التحتية لهذا الاقتصاد والمصالح العليا للدولة. إضافة إلى ذلك، استثمر هذا الكيان في الحرب مع العرب، ليجعل من الجيش الإسرائيلي ليس مجرّد أداة حرب وحسب، بل أيضاً مصنعاً كبيراً لتطوير صناعة السلاح الإسرائيلية، التي يقول عنها عزمي بشارة في محاضرته إنّها تعادل عُشر ما يتمّ تصديره عالمياً.
كان الجيش الإسرائيلي الأداة القاتلة التي هجّرت العرب الفلسطينيين، سكّان الأرض الأصليين، من ديارهم، لكنّه لم يكن كبقيّة جيوش الأنظمة العربيّة الاستبداديّة، وسيلةً لتأبيد نظام الحكم التسلّطي لعصابة أو لفرد، ولم يكن وسيلةً للنهب والاسترزاق، ولم يكن وسيلة للفساد والتخريب الممنهج للكيان الإسرائيلي، ولم يكن وسيلةً لقمع اليهود الإسرائيليين المعتبرين في نظر القانون مواطنين كاملي المواطنة، بل كان الناظم الرئيس والأساسي لحركة تطوّر هذا الكيان.
من هذا المنطلق، نجد أنّ كياناً غاصباً لا شرعيّة له استطاع أن يستفيد من نظام التشغيل الغربي، إن صحّ التعبير، وأن يبني منظومة مؤسساتيّة قائمة على تداول السلطة بين الأحزاب وعلى احترام القانون. وبغضّ النظر عن عنصريّة الدولة كلها، وعنصرية الكيان القائم أساساً على التمييز بين المواطنين اليهود وغيرهم، وعلى التمييز بين المواطنين اليهود ذاتهم حسب منبتهم الشرقي والغربي، وعلى غيرها من السلوكيات العنصرية التي لا يمكن إغفالها، والتي سيكون لها تأثير مدمّر على هذا الكيان في نهاية المطاف. ولكن يبقى أنّ هذا الكيان قد أثبت قدرته على البقاء في محيطٍ من الدول المحكومة بأنظمة ديكتاتوريّة فاشلة، هي بحكم بنيتها وتركيبتها غير قابلة للاستمرار إلّا بهذا الشكل، وعند أية محاولةٍ لتغييرها، تأخذ البلدان والشعوب إلى متاهات المجهول.
كيف استطاع هذا الكيان الاستيطاني أن يخرج من هذه المعادلة، على الرغم من أنّه يعتمد ويدين بالدرجة الأولى لوجوده على العسكرة والجيش؟ ببساطة شديدة، استثمر فائض القوّة والاستبداد الملازمين للعسكرة في محاربة أصحاب الأرض الحقيقيّين، وفي محاربة شعوب دول الجوار، سواءٌ مباشرة من خلال حروبه المستمرة ضدّهم، أو من خلال دعم حكّامهم المستبدّين في الوصول أولاً وفي الاستمرار ثانياً في الحكم. لقد شكّل الشعب الفلسطيني، بالدرجة الأولى، ومن ثمّ شعوب دول الطوق، بالدرجة الثانية، حقل الاختبار لفائض التوحّش الإسرائيلي، فكان التصريف نحو الخارج، لا نحو الداخل.
استثمر هذا الكيان في مسألة الإرهاب، لتعزيز وجوده وتقويته، على المستويين الدولي والإقليمي، 
بينما استثمر المستبدون في بعض الدول العربيّة في ذلك لتعزيز تفرّدهم بالحكم على حساب الشعوب. وبينما كان الجيش الإسرائيلي مصدراً للتنمية والتطوير لهذا الكيان الاستيطاني، جعلت بعض أنظمة الحكم الجمهوريّة في بلادنا العربيّة الجيوش وأجهزة الدولة مرتعاً للفساد والتخريب الممنهج، فبينما يقيم رئيس الوزراء الأسبق، إيهود أولمرت، وراء القضبان، بتهم الفساد المالي، نجد حكّاماً عرباً خلعتهم ثورات شعبيّة عارمة خارج السجون يتمتّعون بما سرقوه من قوت شعوبهم.
لم يعد التحالف الموضوعي بين أنظمة الاستبداد العربيّة والكيان الصهيوني خفيّاً، بل بدأت تظهر إلى العلن الآن أصوات تجاهر بضرورة التحالف بين بعض الدول العربية وإسرائيل لمواجهة الخطر الإيراني. والوقاحة لا تقف عند حد، فمهما كانت حالة العداء التي يكنّها نظام حكم الملالي للعرب والعروبة، والتي يغطّيها بشعارات المقاومة والممانعة، فإنه لا وجود لصراع تناحريّ بين العرب والإيرانيّين، وحالما يتحرّر هؤلاء من الاستبداد سيكون في مقدورنا التعايش معهم، وفق مبادئ المصالح المشتركة. أمّا مع كيان استيطاني أزاح شعباً بأكمله من أرضه، فالمسألة ليست بحاجة للنظر والتفكّر. إسرائيل عدوّنا الأول والثاني والثالث، ومعها الاستبداد الجاثم فوق صدور شعوب المنطقة، عربياً كان أم إيرانيّاً.
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود