وداع عربي وقصائد أخرى

وداع عربي وقصائد أخرى

18 سبتمبر 2018
(بافلوس د. بيزاروس)
+ الخط -
كيف يعبّر النورس عن نفسه

حين كنتُ صغيراً لا أزال، منحوني البحر
أياد ناضجة أقامت طقس دخولي
إلى صمته الثرثار.
ومنذ ذلك الحين والكلمات التي تفلت منّي
في دوائر فوق السواحل والصواري
ليست مجرّد مهاجرين شجعان
لا يكلون من البحث بمنظار بحّار
عن أرض كريمة يستقرّون عليها،
يبنون بيوتهم عليها،
ليخففوا جوعهم بقليل من زيت الزيتون.
ومع ذلك، يبقى قلبي مشقوقاً
محفوراً باللامرئي أو اللامتحقق.
لهذا السبب كل قصائدي
تشير إليك
يا يمامتي الصغيرة.

(يونيو 1986)


■ ■ ■


الذاكرة الحبيسة

أقول لك: هكذا
طوال الوقت
تلامس أصابع الذاكرة
شرارة أضواء يبعثها الكون.
لذلك يقفز حزن الشرق
عبر موسيقاه إلى أجسادنا.
ومثل النهر
يشدّ حمض الهيدروكلوريك إلى أسفل
كلما قلّبت أيدينا، كأوراق اللعب
صوراً فوتوغرافية قديمة
تتمزَّق براءتنا المفقودة.
-
أقول لك إن البراءة
لعبة ماتت منذ زمن طويل.
لكن لا شيء في الحياة بلا جدوى
طالما نعبئ الذاكرة
بأوقات عشناها.
في لحظة أخرى
ونحن نلعب بخيال مشاعرنا،
وسط منعطف التفكير
في أحداث تجري أمامنا،
في هذه اللحظة ندرك
أننا عشنا من قبل هكذا تماماً،
أو حلمنا أنه حدث.
-
أقول لك: هكذا
تعاد صناعة ماضينا باستمرار
لأن الذاكرة خادمة عجوز في البيت
نَرهَبها منذ كنا أطفالا
ونحبسها كل مرة
في الكلمات.
وفي الأعماق
وسط ألعاب تخبئ بكاءنا
من أنها ربما تموت وحيدة ومهجورة
لو أننا حرمنا منها -
هذا ما أقوله لك -
ماذا سنصنع
بحياتنا الباقية.

(يوليو 1987)


■ ■ ■


وداع عربي

يا محمود، ويا توفيق
الليلة يضع البحر الميت
تحت أقدامكما
أوزار ظلامه
لترافق ظلالكما إلى رحلة
ليس منها رجوع.
-
سيصبح البحر سجّادة يا محمود
سيجفّ بملح الدموع
فتتراءى اليد المقطوعة
ملوِّحة وداعها في بيروت.
-
ليثي - نهر النسيان - مجرد غلطة يا توفيق
لا تشرب من مائه وأنت راحل.
خذ جسدك واذهب. فقط
اترك قلبك هنا ليدق الجرس.

(يوليو 1982)


■ ■ ■


قراصنة بلا أسماء

في البدء تكون نقطة
في بحر وجوه السوق
ثم تداهمنا سفينةُ لُبدتكِ
لتقصف قلعة عيوننا.
-
لكن ثمة شيئا مألوف في حركتكِ
لقد عرفناكِ قديماً في مكان ما
عبر غارات لم نبح بها لأحد.
لكننا لم نتعلّم اسمكِ أبداً.
في تلك المرّة أيضاً كنّا تلاقينا
في الأحلام أو الصلوات -
بيتُ عنكبوت الذاكرة يفترسنا -
لم نُضِع وقتاً في تقديم أنفسنا.
استسلمنا منذ البداية
ووهبناكِ كلَّ زخرفنا
كلَّ جواهر روحنا.
تبدَّلت الأهواء بالخيال.
-
الآن وجدتِنا مرّة أخرى مشوّشين
صفافير الإنذار تتخبّط داخلنا
تصدّ حروب شوارع غريبة وغير منتظرة،
بينما لُبدتكِ الثرية قد بدأت
تلوِّح بعلم الكبرياء
الذي يزجّه الشباب
في وجه هياجنا المكبوت.
-
أبادر بالكلام بجرأة
لكنني لا أعرف كيف ولا مَن أخاطب
وحدها نظرة الفحل الأصلع تُخضِعكِ
لأنكِ هجينٌ كاريبي غيرُ مروّض
تنزعين البتلات عن وردة من الهيمالايا.
-
على الفور حيّدتِ الحصون وأجهزة الإنذار
وقبل أن تصبحي نقطة من جديد
صنعتِ معجزتك
(يا للبلبلة التي أطلقتِها بلا قيد)
فقد أطلقتِ العنان لنهديك
وسرقتِ الشِعر.

(مارس 1986)


■ ■ ■


الحَوَاسُ أشجارٌ

الحواسُ في بَيَاتِها الشِتويّ
أشجارٌ تَطرَحُ أوْراقَها كلَّ عام.
عاريةٌ
هَيْفاءُ
هَشَّةٌ
في وَحْدتِها،
صَابِرةً مع ذِكرياتِها المُهَشّمَة
تَنتَظِرُ مُوسمَ الإِزهَار.
.
مع أوّلِ صَوتٍ مِنَ الشَرْقِ
يَتَبَدّى المُتَصَنّتُونَ مِثْلَ حَلَزونَاتٍ
لابِدَةٍ في انتِظَارِ احْتِكَاكٍ دَافِئٍ
بَينما الأَجْسادُ تُغَطّيها عيونٌ
تَتَقَافَزُ مُقَرقِعَةً في الليلِ
مَفتوحَةً على اتِّسَاعِها
مِن كُلِّ الاتجَاهات.
في تَقَاطُعِ النَظَرَاتِ الدَامِيَةِ
تُصبِحُ الأَيدِي غُصُوناً
تُلَاطِفُ أَرْوَاحاً جِنيَّةً في الرِيحِ.
أَلسِنَةٌ تَلَعَقُ نَدَاوَةَ الحَدائِق
مُسَلِّمَةً لرَوَائِحَ فاتنةٍ تَبعَثُها
الأَجْسَاد.
.
الحَواسُ أشجارٌ غيرُ مُقَلَّمَة،
مَضفورةٌ في أغصَانِها المَضْفُورَةِ فِيها.
تَذُوقُ اللَمَعَانَ بأَيديَها
تُلاطِفُ الشُحُوبَ بنَظرةٍ
تُشاهِد الوَشْوَشَةَ بآذَانِها
تَسْمَعُ الحَريقَ بفَتَحَاتِ أُنُوفِها
تَشُمُّ المَرَارَة بأَلسِنَتِها.
.
الحواسُ تَسْتَمنِي
في خَيَالاتِها
بينما تَهتَزُّ عَلَى أَرْصِفَةِ المَوَانِئ
في حَافِلَاتِها النَهرِيّة الراسِيَة.
.
ذَاتَ لَيلَةٍ
سأَكمنُ بِمَكْرٍ لِحُرّاسِ الليَلِ
– سَأَجِدُ طَرِيقَةً لتَخلِيصِهِم –
وأُحَرِّرُ بَاخِرَةَ الحَوَاسِ
مِن مَرفَئِهَا
أَعتَليها وأُبحِرُ
عَبرَ نِصْفَي الكُرَةِ الأرَضِيّةِ
من الشمالِ إِلى الجَنُوبِ ثم إِيَابَاً بالعَكْس.
.
أمّا حُرّاسُ اللَيل
فَسَأُلَوِّحُ لَهُم بمَندِيلي
مِن فَوقَ الجِسْرِ.

(ديسمبر/كانون الأول 1981)


* Pavlos D. Pezaros شاعر يوناني من مواليد عام 1949 في بيرايوس التي عاش فيها حتى عام 1978 قبل أن ينتقل إلى العاصمة أثينا حيث يعيش اليوم. من مجموعاته الشعرية: "رائحة اليود" (1982)، "طعم الملوحة" (1986)، "تأكسد اللمس التدريجي" (1990)، "وقاع البحر" (2016). إلى جانب ذلك هو خبير في اقتصاد بلده الزراعي، حيث تولى مناصب مختلفة في هذا المجال، وله مؤلفات في حقل اختصاصه العلمي.

** ترجمة: يوسف رخا

المساهمون