شبح الاعتقال يطارد الدمشقيين

شبح الاعتقال يطارد الدمشقيين

20 ديسمبر 2020
+ الخط -

تثقل حواجز النظام في العاصمة السورية دمشق على أهلها، وتبث الرعب في نفوسهم من احتمالات الاعتقال وفي أحسن الأحوال الابتزاز

يحبس أحمد (34 عاماً) أنفاسه كلّما اقترب من أحد الحواجز الأمنية، التي ما زالت تقطع أوصال العاصمة السورية دمشق، والرابضة على مداخل العديد من شوارعها الرئيسية. ينزع على عجل سماعات هاتفه المحمول من أذنيه، ويضع هاتفه في جيبه، ويرفع نظاراته الشمسية عن عينيه، ويخرج بطاقته الشخصية من جيبه، ويتفقدها إن كان قد أصابها أيّ ضرر، فكثير من السوريين اعتقلوا، ومنهم من فقدوا حياتهم في المعتقلات، فقط لأنّ بطاقتهم الشخصية مكسورة. ففي السنوات الأولى من الثورة كان هناك أشخاص مناهضون للنظام قاموا بكسر بطاقتهم (وهي بلاستيكية) تعبيراً عن سخطهم من فائض العنف الذي يستخدمه لقمع التظاهرات، الأمر الذي جعل الأجهزة الأمنية تعتقل أيّ شخص لحق ببطاقته أيّ ضرر ولم يصرح عنه، بتهمة أنّه إرهابي، فكلّ معارض بالنسبة للنظام هو إرهابي حكماً.

يقول أحمد الشامي، الموظف في إحدى الشركات الخاصة، والذي طلب عدم ذكر اسم عائلته الحقيقي لأسباب أمنية، في حديث مع "العربي الجديد": "في دمشق، الجميع متهم حتى يثبت العكس، لأسباب قد تعرفها أو لا تعرفها. لديّ قريب سجن أربع سنوات وخرج ولم يعلم لماذا سجن، وبكلّ بساطة إذا اشتبه العسكري على الحاجز بشخص ما لأتفه الأسباب ويرسله إلى الفرع الأمني الذي يتبع له، فعلى على ذلك الشخص الانتظار ما بين ثلاثة أشهر وستة فقط لتنتهي الدراسة الأمنية والتحقيق معه، إذا كان حظه جيداً ولم يجد نفسه أمام محكمة الارهاب". يتابع: "منذ عام 2013 لم أخرج يوماً إلا وكان لديّ شعور بأنّه سيتم اعتقالي على أحد الحواجز الأمنية، ولعلّ ذلك لأنّني ابن منطقة خرجت فيها تظاهرات ضد النظام، وفقدت السيطرة عليها فترة طويلة، أو قد يكون هناك تشابه في الأسماء فاسمي من الأسماء الشائعة، وتشابه الأسماء من أبرز أسباب اعتقال كثيرين، قضى بعضهم سنوات في المعتقل". 
كذلك، لا يفارق القلق جهاد، وهو شاب جامعي من دمشق، بحسب حديثه إلى "العربي الجديد"، قائلاً إنّ "الوضع الأمني في دمشق خانق بقدر ما أصبحت المعيشة خانقة، وحدها وسائل التواصل الاجتماعي هي المساحة الوحيدة التي تتيح لنا أن نعبر عن آرائنا ومواقفنا، لكن بسبب المراقبة الأمنية أنشأت حساباً باسم وهمي، ورحت أكتب آرائي وأعلق على الأحداث التي تنشر على صفحات الأخبار. لكنّ أحد الأصدقاء أخبرني أنّ الأمن يستطيع أن يكشفني، ومن يومها أشعر بقلق شديد، لقد أصبحت أشعر أنّ الجميع كشفني، حتى ذلك العسكري على الحاجز ما إن ينظر إليّ وهو يدقق هويتي ودفتر الخدمة العسكرية، أشعر أنّه يعلم ماذا أفعل، وانتظر أن ينادي باسمي لأنزل من الباص، في تلك الأثناء أضع يدي على زرّ إرسال رسالة أكتبها قبل كلّ حاجز، لهاتف أخي أحدد له بها الحاجز الذي أقف عليه، لكي يعلم إنه تم اعتقالي ومن الجهة التي اعتقلتني". يتابع: "هذه اللحظات التي أخبرتكم عنها ببضع جمل، تمرّ علي ثقيلة كأنّها أيام، فهي مخاوف أعيشها بشكل يومي خلال ذهابي وعودتي من الجامعة، حتى أصبح لديّ قلق من أيّ ضجة تحدث أمام البيت، فكلّ ما يخطر لي هو أنّ دورية أمن ستقتحم المنزل لتعتقلني، أصبح كلّ ذلك يشكل لي رهاباً، لا يجعلني أفكر سوى بإنهاء هذا العام الدراسي، لأحصل على شهادتي الجامعية وأسافر إلى خارج البلاد".
أما عائشة العكّ (21 عاماً)، النازحة المقيمة مع والدتها في أطراف العاصمة، فغالباً لا تتراءى لها في الحاجز سوى صورة والدها وشقيقها، وهما ينظران إليها، خلال إنزالهما من الباص قبل نحو 5 سنوات من قبل عناصر الأمن على أحد حواجز دمشق. تقول لـ"العربي الجديد": "كلّما مررت على حاجز لا أستطيع منع نفسي من رؤية وجه أبي وهو ينظر إليّ قبل أن يدخلوه إلى غرفة لم يخرج منها، ثم أجبرونا على مغادرة الحاجز". مشاعر عائشة مختلطة في دمشق، فقلبها ما زال ينقبض مع عبورها على كلّ حاجز، وكثيرة هي تلك اللحظات التي لا تستطيع أن تمنع انهمار دموعها، قائلة: "منذ اعتقل أبي وأخي لم أستطع أنّ أمرّ مرة أخرى على ذلك الحاجز، حتى قبل نحو عام كان من المفترض أن أمرّ في المنطقة لكنّي غيرت كلّ طريقي، فلا أتصور أن أقف في المكان نفسه مجدداً". وتحلم عائشة بأن ترى والدها وشقيقها من جديد، وأن تأخذهما وتسافر إلى شقيقها اللاجئ منذ أربع سنوات في إحدى دول أوروبا، في حين تخاف أن تخسر هذا الأمل، الذي تعيش عليه والدتها، والتي ما زالت ترفض الخروج من سورية "لكي لا يعود أبي وشقيقي ولا يجدا أحداً بانتظارهما في المنزل".
لا تبدو هناك حصانة لأحد على تلك الحواجز، التي تعتبر باب ارتزاق لعناصر وضباط الجهات الأمنية، فبقدر ما تشكل باب ترهيب وخطر اختفاء لغالبية سكان العاصمة السورية، هي تشكل خطراً حتى على الموالين وعناصر المليشيات، بحسب أبو علي الطويل، وهو مقاتل في مليشيا "الدفاع الوطني" الموالية للنظام، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "منذ شهر تقريباً، كنت متجهاً إلى وسط دمشق فأوقفتني دورية في منطقة باب مصلى، لم تعترف ببطاقة الدفاع الوطني وأخذت البطاقة الشخصية، فتبين لهم أنّي مطلوب للخدمة الاحتياطية، وعقب جدال معهم أخذوا 100 ألف ليرة (142 دولاراً بالسعر الرسمي)، مقابل السماح لي بمغادرة المكان، وهذا مع المراعاة كوني من مقاتلي فصيل رديف للجيش، فماذا لو كنت مدنياً"؟

وفي دمشق التي يقبض عليها النظام بيد من حديد، والمثقلة بهموم معيشية لنحو أربعة ملايين شخص، تجد الناس يهمسون في آذان بعضهم بعبارات وكلمات، تشعرك بحجم ضيق العيش وثقل تلك الحواجز والدوريات الأمنية، كأن تسمع أحدهم يهمس قائلاً: "الله يخلصنا" أو "لكلّ شيء نهاية" وغيرهما من العبارات التي يحاولون أن ينفّسوا فيها عما يثقل عليهم.

المساهمون