إحباط جماعي... "فيسبوك" يصيب لبنانيين بالخوف والاكتئاب

إحباط جماعي... "فيسبوك" يصيب لبنانيين بالخوف والاكتئاب

08 فبراير 2021
آثار انفجار مرفأ بيروت الذي وقع قبل ستة أشهر في الخلفية (حسين بيضون)
+ الخط -

نُردّد أن وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً فيسبوك، تحوّلت إلى ورقة نعي في لبنان. يومياً، يتم الإعلان عن وفاة أشخاص بعدما أصيبوا بفيروس كورونا. وها نحن نعيش اليوم المزيد من الخوف والإحباط

"ما أصعب الموت بكورونا. أن تفقد أخاك بكورونا يعني أن تكون شبه وحيد في دفنه، أن تطلب من المُحبّين عدم الحضور لتوديع عزيز ومواساتك خوفاً على صحتهم، أن تبكي نشيجاً، ألا تستطيع أن تمسح بكفك على وجهه وتُقبّل رأسه للمرة الأخيرة، ألاّ تضم ابن أخيك وزوجته وبناته وأحفاده إلى صدرك... أن تفقد حبيباً بكورونا فكأنّك تموت معه". مثل هذه الكلمات تكثر على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً فيسبوك. هكذا يحاول أهل الضحية مواساة أنفسهم بعدما فرض عليهم الفيروس العزلة حتى في طقوس الموت. هذه الكلمات والكثير غيرها تأخذنا إلى حقيقة فضّل بعضنا إنكارها، ألا وهي الموت بكورونا.

والحقيقة أنّ الموت قريب منا كما هو قريب من الآخرين. مع ذلك، فإن كثرة أوراق النعي التي نراها يومياً على فيسبوك، سواء كانت تخصّنا أو لا، جعلت كثيرين منا يعيشون حالة من الهلع، وإن كان الأمر ليس جديداً بالمطلق. وزاد من الخوف والضغط إعلان لبنان حالة الطوارئ خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة والإغلاق التام وحظر التجول مع الارتفاع الكبير في أعداد الإصابات بالفيروس والوفيات في ظل عجز النظام الاستشفائي. واليوم، ومع بدء تخفيف هذه الإجراءات، لن يتغير الكثير على وسائل التواصل الاجتماعي. 

عادة جديدة
مات؟ كيف مات؟ كورونا؟ كم عمره؟ وهل كان يُعاني من أمراض أخرى؟ ما إن نرى أحدهم ينعى آخر حتى تتبادر إلى أذهاننا كل هذه الأسئلة. ولا نرتاح إلا إذا كان الموت مبرراً هنا. فتقبّل الموت بكورونا من غير مرض مزمن، صعب. وفي النتيجة، تُحاصرنا أخبار الموت والحزن وكلمات العزاء بعدما وضعنا الفيروس في مواجهة مجهول إضافي. 

الصورة
شوارع لبنان في زمن كورونا- حسين بيضون

ندى التي أصيبت بكورونا وشفيت منه، باتت تحرص على ألّا تفوتها أي ورقة نعي على فيسبوك. وهذه "عادة جديدة"، تقول. "أستيقظ صباحاً، وأبحث عما إذ كان قد توفي شخص أعرفه". بدأ هذا الشعور لديها بعدما توفي أكثر من شخص من معارفها وأقاربها خلال أيام قليلة نتيجة إصابتهم بكورونا، وقد عرفت بهذه الأخبار من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. "ماذا لو كنت أنا التي توفيت بسبب كورونا؟ أشعر بالذنب أحياناً لأنني نجوت. وأكثر ما يضايقني هو عدم قدرتي على توديعهم". 

تتابع صفحة القرية التي تتحدر منها يومياً على فيسبوك خشية أن تفوتها ورقة نعي فلا تعرف بموت عزيز أو غيره بعدما كثرت أوراق النعي. إحدى القصص التي أثرت فيها هو طلب شخص تعرفه وحدات دم لمريض بكورونا في المستشفى. لم تتمكن من المساعدة على الرغم من اتصالها بعدد من الأشخاص، ليتوفى المريض في اليوم التالي. "في لحظات كهذه، تصير المشاعر غير واضحة. هل نسأل عن المرضى لنعرف إذا ما كانوا في طور الشفاء أو الموت؟ الأسوأ أننا صرنا ننتظر خبر الشفاء مثلما ننتظر خبر الموت"، تقول.

الصورة
شوارع لبنان في زمن كورونا- حسين بيضون

نادر، بدوره، يقول إنه يُتابع أخبار كورونا بصورة يومية سواء من خلال المواقع الرسمية كمنظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العامة، أو المواقع الإخبارية الإلكترونية، أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى من خلال ما يتناقله الناس في اللقاءات المحصورة بعدد قليل من الناس. يُزعجه أنه لم يعد هناك مواضيع تُثار للنقاش غير كورونا وأعداد الإصابات والوفيات والدعاء للمرضى والترحّم على الموتى وقرارات وزير الصحة حمد حسن واللجنة الوزارية لمتابعة ملف وباء كورونا وآثار الإقفال العام على حياتنا. "كلّ هذه الأمور والأفكار التي تكثر مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي جعلتني في حالة توتر دائمة. لذلك، قررت عدم التفاعل مع أي شخص على فيسبوك أو غيره. بعدما كنا نحكي عن نشاطات وننشر صوراً، صارت أخبار كورونا تُشعرني بالعزلة والتشاؤم والخوف من استمرار هذا الوضع لوقت طويل. حاولت العودة إلى ممارسة هواياتي منها القراءة والاستماع إلى الموسيقى، وخرجت من الكثير من المجموعات على واتساب".

رفض وواقعية  
نعيش حالتين. الأولى هي الرفض لهذا الواقع وإنكاره، والثانية هي التعامل معه بواقعية، كما هي الحال لدى الإعلان عن الموت أو التعبير عن مشاعر الحزن. في هذا السياق، تقول الدكتورة في علم النفس الاجتماعي والأستاذة الجامعية باسمة المنلا، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والقيود الصحية الناتجة عن تفشي كورونا فرضت على الناس تغيير عاداتهم وتقاليدهم، منها وسائل التعزية التقليدية، ما أجبر الناس على البحث عن بدائل". تضيف: "في السابق، كانت أوراق النعي تُلصق على مداخل المباني، ثم في خانة الوفيات في الصحف الورقية، ثم الصحف الإلكترونية. إلا أنّ الكلفة المادية للنشر في الصحف أدت إلى تراجع الاعتماد عليها كوسيلة للإبلاغ عن الموت". وتشير المنلا إلى أنّ "كورونا غيّر من عاداتنا الاجتماعية، وألِف الناس الموت". والناس، على حد قولها، لجأوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي بسبب غياب أيّ بديل في ظل عدم إمكانية التواصل المباشر. من هنا، توضح أنّ "تفشي كورونا ونشر كثيرين أوراق نعي للإبلاغ عن وفاة أقارب أو أحباء بالفيروس خلق حالة صدمة بين الناس، خصوصاً أنّ عدداً كبيراً من الناس كان ينكر وجود الفيروس أو لا يعيره أية أهمية، ليصفع الجميع بالحقيقة". تتابع: "تغيّر مفهومنا للموت. بالنسبة إلينا، كان ينهي مسار حياة طويلة إلا في حالات استثنائية. لكن بعد تفشي كورونا، شهدنا الأكبر سناً يدفنون شباباً. نسف كورونا الكثير من المفاهيم التقليدية".

وعن تأثير ما يتم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، تقول المنلا إنّه "حتى اليوم، ما من دراسات تشرح تأثير كلّ ذلك علينا، في ظل الانشغال باللقاحات. لكن، في حالة مرض جديد وشرس وغامض وسريع العدوى فإنّ هناك تأثيرات تختلف من شخص إلى آخر. بالنسبة للبعض، بات الموت أمراً عادياً. فبعدما كان المرض بعيداً يُصيب الآخرين فقط، بات قريباً جداً ونقرأ عنه يومياً. في المقابل، قد يساهم الوباء في خلق حالة هلع جماعية".

رغبات وضغوط
ما نعيشه جعل أسئلتنا عن الصحة النفسية أكثر إلحاحاً، وإن كان البعض يظنّها ليست أولوية في ظل مرض غامض وأزمة اقتصادية. هنا، تُحاول المستشارة النفسيّة دانيا بشناتي العودة بنا إلى بداية القصة. تقول: "لكلّ شخص رغباته وحاجاته، منها تطوير الذات ليشعر بوجوده. وهذا غير متوفر في ظل الحجر، ما يعني أنّه أصبح هناك قمع لهذه الحاجات. من جهة أخرى، فإنّ الأخبار التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي وتلك التقليدية تتمحور حول وقوع حالات انتحار وجرائم اغتصاب وقتل وأحداث أمنية، ما يجعلنا نطرح تساؤلات في ظل عدم وجود حلول. في النتيجة، فإنّ كلّ الأفكار التي نكوّنها سلبية. حتّى اللغة التي نستخدمها في البيت باتت سلبية". 
وتوضح بشناتي أنّ "كلّ فكرة يُرافقها شعور. ثم تتراكم هذه المشاعر لتؤدي إلى ضغوط في ظل عدم القدرة على إشباع رغباتنا وتطوير ذواتنا. في وقت سابق، كانت وسائل التواصل الاجتماعي نافذتنا إلى العالم، إلا أنّها تحولت إلى ورقة نعي. وتقول إنّ القلق في الظروف الطبيعيّة يتراجع مع الوقت، على عكس ما نعيشه اليوم. الأخبار السلبيّة وخصوصاً أخبار الموت بسبب كورونا جعلتنا نعيش تهديداً مستمراً. بتنا نشعر بأنّه يمكن أن نموت في أية لحظة. وحتّى لو كنّا نعرف الأمر، إلّا أن فيسبوك يعمد إلى تذكيرنا بها مراراً وكأنه يضعنا أمام الحقيقة وجهاً لوجه". تضيف أنّ "المجتمع كان يتولى الحفاظ على صحتنا النفسية، وذلك ما لا يحصل اليوم في ظل الحجر سواء أكان كلياً أو جزئياً. والنتيجة قلق واضطرابات في النوم والأكل وإحباط جماعي". 

الصورة
شوارع لبنان في زمن كورونا- حسين بيضون

لماذا ينشر الناس أوراق النعي أو يكتبون عن أحزانهم على فيسبوك؟ تشرح بشناتي أنّ "الناس في حاجة إلى مشاركة أحزانهم مع الآخرين، فيلجؤون إلى وسائل التواصل الاجتماعي كونها الوحيدة المتاحة أمامهم اليوم. سابقاً، حين كانت تلتمّ العائلة لمواساة المريض أو أهل الفقيد، كانت مشاعر الحب هذه تملأ الخزان العاطفي لمن يحتاجه، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق اليوم في ظل الخوف من عدوى كورونا". من هنا، تشدد على أهمية الحفاظ على الصحة النفسية، من خلال عدم الاستماع أو قراءة الأخبار طوال الوقت، والاستماع إلى الموسيقى، وارتداء الثياب بدلاً من البقاء بثياب النوم طوال النهار، وممارسة الرياضة، وغيرها من التفاصيل البسيطة. ومثلها، تلفت المنلا إلى أهمية التعبير عن كلّ مشاعرنا بدلاً من كبتها، موضحة أنّ الخيار الأخير يضاعف الضغوط ويؤثر على نفسيتنا.

تأثير متواضع
بعيداً عن علم النفس، لعلم الاجتماع موقف مغاير بعض الشيء. يقول الأستاذ في علم الاجتماع روبير عبد الله إنّ نشر الأخبار عن الفيروس وما يرافقه على وسائل التواصل الاجتماعي يساهم في الوعي المجتمعي لتجنّب العدوى بالفيروس. كما يساهم في خلق نوع من المصالحة في ظلّ العجز عن محاربة الوباء والحفاظ على التوازن النفسي. كذلك، يلفت إلى حالة الإنكار التي يعيشها البعض بسبب عقم القدرة على إنهاء الوباء. ويشير إلى أنّه يستهجن إدانة الناس "لأنّ الوعي ليس ناقصاً لديهم، فالإدانة يجب أن تُوجّه إلى السلطة التي أفقرت الناس ونهبت المستشفيات".  
عملياً، باتت وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً عن الحياة. لكنّ عبد الله يرى أنّ "تأثيرها متواضع جداً؛ بمجرّد أن تتراجع الإجراءات التي تفرضها البلاد، سيعود الناس إلى حياتهم الطبيعية". من جهة أخرى، يلفت إلى أنّ "إدراك السلطة بأنّها المسؤولة عمّا حلّ بالبلاد، جعلها تبثّ الكثير من الأخبار من دون التعاطي مع هذا الملف بجدية، خصوصاً أنّها تملك الجهازين الإعلامي والتربوي. كذلك، فإنّ وسائل الإعلام تبالغ في معالجة أزمة كورونا، وتستضيف الأطباء يومياً وقد تحوّل هؤلاء إلى محللين استراتيجيين". ولا ينسى الإشارة إلى ما يتم تداوله عن عدم دقة أرقام الوفيات بكورونا، علماً أنّه ما من دلائل حتى اليوم.

مواطنون كثيرون تحدثوا عن عدم ثقتهم بأرقام الوفيات، وهو ما يزيد من حال الإرباك والتوتر. لمى هي أحد هؤلاء، وتقول إنّها لا تثق بأيّ جهة حكومية. تضيف أنّه "يكثر الحديث عن عدم إعلان أسباب الوفاة الحقيقية للحصول على المال". واليوم، تعيش حالة من الرعب بسبب كلّ ما تقرأه من أخبار عن كورونا في لبنان، إلى درجة تدفعها إلى البقاء لدى أٌقاربها في الخارج ريثما تتم السيطرة على الوباء. أما نادين، التي تؤيّد نشر الأخبار بهدف التوعية وتتقبل مشاعر الناس، فتقول: "على الله".

المساهمون