أموت ولا أذهب إلى رواندا... من مركز اللاجئين الذين سترحّلهم بريطانيا

أموت ولا أذهب إلى رواندا... من مركز اللاجئين الذين سترحّلهم بريطانيا

05 يونيو 2022
لاجئون في بريطانيا قريباً إلى محطة رعب جديدة في رواندا (ستيوارت بروك/ الأناضول)
+ الخط -

يحتفل البريطانيون منذ ثلاثة أيام باليوبيل البلاتيني لجلوس الملكة إليزابيث الثانية على العرش. منحتهم هذه المناسبة عطلة رسمية استثنائية أربعة أيام متتالية، بدءا من الخميس الماضي، يمضونها في المتنزّهات والمطاعم وحفلات الشوارع والأسواق. في هذه الأثناء، يعيش أكثر من 80 طالب لجوء من جنسيات مختلفة حالة هلع، بعدما تسلّموا في 14 يونيو/حزيران الجاري من وزارة الداخلية البريطانية بلاغاً بقرار "بلد الحريات" ترحيلهم إلى رواندا.
يمر الطريق إلى مركز "بروك هاوس"، حيث يحتجز طالبو اللجوء الذين تشملهم الدفعة الأولى من قرار الترحيل، بمحطة فيكتوريا الشهيرة التي تصل لندن بضواحيها ومطار غاتويك جنوب العاصمة. مظاهر الاحتفالات كانت في أوجها في المحطة المركزية؛ ضحكات صاخبة وملامح وجوه مسترخية وحقائب سفر صغيرة يجرّها أصحابها بخفّة في طريقهم إلى عطلة أو نزهة. 

ما أن يتحرك القطار جنوباً، مبتعداً عن محطة فيكتوريا، حتى تختفي لندن التي نعرفها. وفي رمشة عين، تنبت عمارات غريبة عن النمط المعماري الفيكتوري السائد، وتنكمش ملامح الثراء الثقافي، ويخفت ضجيج المدينة الكوزموبوليتية، ليعلو صوت الأكثرية المهمّشة والمنهكة. 
نصف ساعة تفصل فيكتوريا عن مطار غاتويك، وخمس دقائق تفصل المطار عن "بروك هاوس"، المركز الذي تديره شركة "سيركو" الخاصة، حيث يُحتجز اللاجئون والمهاجرون ممن ترغب الحكومة في ترحيلهم. يطلّ المبنى المسيّج والشديد الحراسة على مدرج المطار الفسيح. كل دقيقتين أو ثلاث تقلع طائرة، يصل هديرها إلى كل المناطق المجاورة.
وما أن يدخل الزائر إلى المبنى "السجن"، حتى يصبح سجيناً. يجرّد من كل ما يحمله وتُحفظ أشياؤه في خزانة الأمانات مثل المحتجزين الكثيرين في المبنى الكئيب، الهاتف والحقيبة والسترة وزجاجة الماء البلاستيكية والمفاتيح وكل ما يربط الشخص بالخارج، والحياة. 

الصورة
أحد مداخل مركز  "بروك هاوس" لاحتجاز اللاجئين (العربي الجديد)
أحد مداخل مركز "بروك هاوس" لاحتجاز اللاجئين (العربي الجديد)

يُسمح لجسم الزائر فقط بالعبور إلى الداخل مع بضع قطع نقدية، شرط ألا تتجاوز عشرة باوندات، في حال رغب في استخدام البرّاد الآلي لشراء ماء أو شوكولاتة خلال ساعات الزيارة الثلاث. وبعدما يتخلى الزائر عما يربطه بالخارج ويودِع أشياءه في خزانة، يضمّ مفتاحها الصغير بين أصابعه كأنه نور عينيه، ويمشي باتجاه باب آخر لونه أحمر. هناك يخضع لتفتيش آخر يماثل التفتيش الأمني في المطارات والسجون، ثم يعبر إلى غرفة مربّعة تزنّرها كراسي جلدية منخفضة وفي حالة رديئة، وتتواجد على جدرانها لوحات فنية تجارية ولوحات إعلانات عن أضرار المخدّرات وخطورتها على الصحة، إضافة إلى إرشادات للوقاية من الجائحة، كغسل اليدين باستمرار، والحفاظ على المسافة الآمنة مع الآخرين. 
لا شيء في غرفة الانتظار الأولى تلك يشير إلى مركز احتجاز أو طالبي لجوء. يُفتح الباب الآخر للغرفة ويطلب رجل الأمن من الزائر مرافقته. يجتازان شارعاً صغيراً، ثم باباً آخر للبناء المقابل. 
في "بروك هاوس"، لا يُفتح باب حتى يُغلق آخر، ويقفل بإحكام. يصعد الزائر إلى الطابق الأول، حيث يعثر على مزيد من الأمنيين من رجال ونساء بالتساوي، لأن بريطانيا بلد المساواة. يُفتح باب رابع وخامس وسادس، ثم يصل الزائر إلى غرفة فسيحة تتوزّع الكراسي الجلدية الزرقاء على أرضها، وتتدلّى من سقفها كاميرات مستديرة وضخمة. 
على أحد الجدران، علقت لوحة ترحيبية "Welcome" بكل اللغات "المقهورة"، بينها العربية "مرحبا" والفارسية "خوش أمديد"، وكُتبت في أسفلها شعارات لا يتبيّن الزائر معناها في هذا المكان الخانق: "سلام، شراكة، احترام". في إحدى الزوايا، ما تزال شجرة عيد الميلاد مركونة، يكسوها الغبار، وكأن أصحاب المكان يذكّرون المحتجزين وزائريهم بأن هذه المحطة القاسية تصلح لكل الفصول. 

الصورة
في مطار غاتويك جنوب لندن (العربي الجديد)
مركز اللاجئين قريب من مطار غاتويك جنوب لندن (العربي الجديد)

الباب السابع
يُفتح الباب السابع أخيراً، ويطلّ بلال، الشاب النحيل، من مدينة درعا السورية الذي لا تقوى ابتسامته الرقيقة على إخفاء خوفه العظيم. وصل بلال إلى بريطانيا في 20 مايو/أيار الماضي، ولم يرَ منها حتى الآن سوى الضفاف التي وصل إليها القارب الصغير الذي أقلّه مع آخرين، والمشاهد القليلة والكئيبة التي عبرت أمامه في طريقه إلى هذا "السجن". 
ترك بلال درعا قبل شهرين إلى ليبيا. لا يعرف من أين يبدأ بالحديث عن القهر الذي عاشه. ترتبك قصص العذابات اليومية في مخيّلته وهو يروي حكايته لـ"العربي الجديد". 
لم يكن قد تجاوز العاشرة عندما انطلقت الثورة السورية من مدينته درعا عام 2011. شاهد القصف والدمار والاعتقالات والقتل والخوف ومحاولات النجاة الحثيثة، وكذلك الانتفاضة وقمعها واستعادة النظام المدينة الثائرة. وبعد سنوات، ترك والديه وزوجته وطفله واتّجه إلى ليبيا، ليعبر منها إلى أوروبا ثم بريطانيا التي لجأ أخوه الأكبر إليها قبل سنوات. 
يقول إنه رحل عن بيته ليبحث عن فرصة حياة لائقة له ولعائلته الصغيرة. لم يكن يعرف ما ينتظره في ليبيا من قهر وإهانات وتجويع وقمع وتعذيب. وصل إلى ليبيا، ولم تكن قد تلاشت بعد آثار الضرب بـ"سيخ معدني" الذي تعرّض له أثناء اعتقاله من جهاز أمني تابع لنظام بشار الأسد. 
راح يحكي عن آثار التعذيب لديه ولدى معظم السوريين ممن ركبوا القارب المشؤوم الذي يتّسع لـ25 شخصاً، لكن حشر فيه المهرّبون 40 شخصاً، معظمهم سوريون، إضافة إلى مصريّين وسودانيين وألبان. 
يحكي بلال أن معظم من أبلغتهم وزارة الداخلية بقرار ترحيلهم بعد أسبوعين إلى رواندا لا يتحدّثون الإنكليزية. ويخبر أنهم محرومون جميعهم منذ الأسبوع الأول من التواصل مع العالم الخارجي، ويتنقّلون بين غرفهم الصغيرة والبهو المخصّص لتناول الطعام، أو الحصول على استشارة تكفلها القوانين الدولية. 
ويوضح أن المبنى المفزع غير مجهّز بوسائل الاحتجاز الطويل، ولا يضم حديقة واحدة، في بلد يتغنّى باللون الأخضر ويتفنّن في تقليم الأشجار والنباتات والحدائق. وبدلاً من السماح لهم بممارسة الرياضة مثلاً، ابتلع القائمون على المكان معظم مساحة البهو بطاولة بلياردو. 

الصورة
لا يغادر اللاجئون المركز "السجن" (العربي الجديد)
لا يغادر اللاجئون المركز "السجن" (العربي الجديد)

خوف أكبر
قبل لقاء بلال، تواصلت "العربي الجديد" عبر الهاتف مع الكثير من المحتجزين في المركز نفسه، ولاحظت أن ما يجمع بينهم في بريطانيا "بلد الحقوق والحريات" هو جنسيتهم "القاتلة" والخوف الذي لم يتخيّلوا أنه أكبر وأبعد مما عاشوه في بلدهم. هناك من شاهد أمّه تقتل أمام عينيه، وهناك من توفي أخوه الأكبر في الأردن. هناك من قُتل معظم أفراد عائلته في مجزرة نوى غرب درعا، وهناك من اعتُقل وعذّب ونجا من قوات الأسد، فوجد نفسه أمام طائرة ستقلع به مع آخرين إلى العاصمة الرواندية كيغالي بعد أقل من أسبوعين. 
ويتشارك هؤلاء جملة موجعة تدلّ على استحالة تقبّلهم فكرة الترحيل إلى رواندا: "أموت ولا أذهب إلى رواندا". جرّبوا الإضراب عن الطعام لأيام، لكن الحرّاس توقّفوا عن تزويدهم بالسكّر أو الملح. 
من يعيش في بريطانيا لسنوات، ينسى الخوف الأمني أو ذلك الفزع المرتبط بالحقوق المغيّبة والظلم، ثم تكفيه ثلاثون دقيقة فقط من وسط العاصمة ليعثر من جديد على ذلك الخوف الهائل في أعين شبّان لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين. أعين مبلّلة بالدموع ومكسورة، بعدما كان مقدّراً لها، وفقاً للقوانين الدولية، أن تتلألأ باطمئنان وأن تحدّق عالياً في السماء، حيث لا وجود لطائرات تقصف وتدمّر. 
جهود حثيثة تبذلها مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية في لندن لتتصدّى لخطة رواندا. قبل يومين، استطاعت مجموعة من المحامين المتطوّعين في هذه القضية، الإفراج عن سبعة محتجزين ضمن المجموعة الأولى التي من المفترض أن ترحّل في 14 يونيو/حزيران الجاري. 

يقول كنان، الشاب السوري المتطوّع في منظمة تهتم بشؤون اللاجئين لـ"العربي الجديد": "استطعنا تأمين الإفراج عن سبعة طالبي لجوء من السودان، لكن المفاجأة أن وزارة الداخلية لم تتأخّر لحظة بعد الإفراج عنهم، واستبدلتهم بسبعة آخرين وصلوا إلى بريطانيا في الأول من يونيو/حزيران الجاري. 
وتؤكد وزارة الداخلية في كل مناسبة متاحة على لسان وزيرتها من أصول مهاجرة، بريتي باتيل، أنها ماضية في خطّتها رغم محاولات المنظمّات الحقوقية التصدّي لها. لم تعد تلك التصريحات مقبولة بالنسبة إلى الكثيرين، لا قانونياً ولا أخلاقياً. يوم غد الإثنين، ستنظر المحكمة العليا في قضية عشرات ممن تضمّهم دفعة الترحيل الأولى، وستتخذ قرارها. يقول بلال إنه لا يحلم سوى بالخروج من السجن الخانق. ويكرّر قبل أن ينتهي الموعد المخصّص للزيارة: "أموت ولا أذهب إلى رواندا".

المساهمون