ليلة الأمعري: حين أصبح المخيّم بيتاً كبيراً لأم ناصر

ليلة الأمعري: حين أصبح المخيّم بيتاً كبيراً لأم ناصر

15 ديسمبر 2018
الاحتلال هدم بيت العائلة للمرة الثالثة (العربي الجديد)
+ الخط -
لم تشأ المسنة الفلسطينية لطيفة أبو حميد (أم ناصر)، وهي أم لشهيد وسبعة أسرى، الخروج من منزلها في مخيم الأمعري للاجئين الفلسطينيين، جنوب مدينة رام الله، وسط الضفة الغربية، وقوات الاحتلال الإسرائيلي تحشد عشرات آلياتها العسكرية والمئات من جنودها لهدمه، فجر اليوم السبت. أصرت أم ناصر على البقاء داخله برفقة العشرات من نشطاء المقاومة الشعبية والمتضامنين، لكن قوات الاحتلال الإسرائيلي أخرجت المتضامنين والنشطاء ومعهم أم ناصر، واعتدت على المتواجدين بوحشية، ثم فجرت المنزل لمرتين، وأصبح ركامًا.

استقبلها أحد الجيران بعد خروجها، ومن هناك كانت تتابع عبر البث المباشر ما يجري لمنزلها، غير مكترثة لما يجري، فبالنسبة لها المنزل ليس بأعز من أبنائها الأسرى، وهو "فداء لأي شبل من أشبال فلسطين". هذه ليست المرّة الأولى التي يهدم فيها المنزل على أيّة حال، و"سيبنى كما بني سابقًا، وبيوت المخيم جميعها بيتي"، تقول أم ناصر في نبرة تحدٍّ.

ساعات صعبة ومليئة بالتحدي عاشها مخيم الأمعري فجر اليوم، بعد انتهاء المهلة المحددة من قبل قوات الاحتلال لهدم منزل عائلة أبو حميد المكون من أربع طبقات، قبل يومين. كانت قوات الاحتلال قد أخطرت العائلة بهدم منزلها بعد اعتقال ابنها إسلام في مايو/أيار من العام الجاري، واتهامه بالتسبب بمقتل جندي من الوحدات الخاصة الإسرائيلية "دوفدوفان"، بعد إلقائه قطعة رخام كبيرة عليه من علوّ أثناء اقتحامه للمخيم.

تضحيات كبيرة بذلتها العائلة التي فرّق الاحتلال شملها منذ زمن. المنزل ذاته هدم عامي 1994 و2003، ضمن سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها سلطات الاحتلال بحق عائلات منفذي العمليات؛ فأم ناصر قدمت ابنها عبد المنعم شهيدًا عام 1994، ولها سبعة أبناء معتقلون داخل سجون الاحتلال، منهم أربعة يقضون أحكاماً بالسّجن المؤبد منذ انتفاضة الأقصى عام 2000.

بعد انسحاب قوات الاحتلال من المخيم، ظهرت آثار الدمار: ركام منزل أم ناصر حاضرٌ تعلوه الأعلام الفلسطينية، وفي المنازل المجاورة، تشققات وتهشم نوافذ. يهدم منزل أم ناصر للمرة الثالثة بعدما بذلت أبناءها جميعًا شهيدًا وسبعة أسرى، أمّا أبناؤها من كلّ أهالي المخيم وشبانه فكانوا حول أم ناصر يقبّلون رأسها ويديها.


أم الشهداء والأسرى هي أم كلّ فلسطيني؛ هذا ما يعرفه الأهالي والجيران جميعًا، كما يعرفون أن ما جرى مع أم ناصر قد يحدث لأي أسرة من أسر المخيم في أية لحظة. قريبًا من بيت أم ناصر، تفاجأت السيدة خلود الشيخ قاسم (أم معتز) بخلع قوات الاحتلال باب منزلها الملاصق تماما، بدون سابق إنذار. وفي دقائق معدودة اعتدوا على زوجها وابنها معتز بالضرب المبرح وعصبوا عيونهما. وحينما احتجت أم معتز على ذلك صرخ الجنود في وجهها "شيكت" باللغة العبرية، أي الزمي الصمت.

تؤكد أم معتز، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن "أم ناصر هي أم صابرة ويجب الوقوف معها ونشد على يديها، فلسطين للجميع وهي وطننا، المال يعوض، نحن قلبًا وقالبًا معها، فهذه المساندة هي عمل وطني أيضًا". تقول إن جنود الاحتلال كسروا الهواتف النقالة الخاصة بالعائلة، ومن ثم احتجزوهم جميعًا في غرفة واحدة واقتادوهم إلى ساحة مدرسة مجاورة دون السماح لهم بارتداء ملابس تقيهم البرد، إلى أن تم نقلهم إلى جمعية الهلال الأحمر المجاورة، وبقوا هناك حتى الساعة العاشرة صباحًا إلى حين انسحاب قوات الاحتلال وإتمامها هدم وتفجير المنزل.

في منزل أم معتز، حيث تبدو التشققات واضحة في جدرانه الملاصقة لمنزل أبو حميد، زجاج النوافذ محطم وأثاث المنزل، وأغطية وفراش وأسرة متناثرة على الأرض وكأن زلزالًا قد ضرب المكان. وبرغم ما جرى، فإن أم معتز لا تعتبر ما حلّ بها سوى أمر بسيط مقارنة مع مصاب عائلة أم ناصر.

أمام منزل عائلة أبو حميد الذي أحيط بأسلاك شائكة، وعلى أسطح المنازل المجاورة، وقف الأهالي يتفقدون ما جرى، بعد أن كان النشطاء في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية نصبوا، قبل أكثر من أسبوع، خيمة للتضامن مع عائلة أم ناصر محاولة للتصدي لأي اقتحام وهدم مفاجئ.

الشاب مراد جابر من سكان مدينة البيرة جاء ليتفقد منزل صديق له تضرر من عمليات التفجير، وليعرف ما حدث في منزل أم ناصر "خنساء فلسطين"، كما يصفها؛ أم فلسطينية أخرى تستدعي هذا اللقب من الذاكرة الجمعيّة. "وقوف الفلسطيني إلى جانب أخيه الفلسطيني هو ما بقي للفلسطينيين من رأس مال"، يقول مراد في حديثه لـ"العربي الجديد".

أما عبد الجليل الترتير، جار أم ناصر الذي لحق منزله بعض الضرر أيضًا، فكان أحد المبادرين للمشاركة في إعادة بناء المنزل بما أوتي من قوة، مستغلًا عمله في مجال الإنشاءات. يقول لـ"العربي الجديد" إن "المنزل يجب أن يعاد بناؤه. كلنا معرضون لاعتداءات الاحتلال ويجب أن نقف بعضنا بجانب بعض، نحن يد واحدة وشعب وعائلة واحدة لن نتخلى عن بعضنا البعض".

وتوازيًا مع تلك المبادرات الفرديّة، أعلنت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية عن إطلاق "الحملة الوطنية لإعادة بناء منزل عائلة أبو حميد" وترميم المنازل المجاورة، وتشكيل لجنة من أجل حصر الأضرار في تلك المنازل. يؤكد رئيس الهيئة وليد عساف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن اجتماعًا موسعًا سيعقد لكافة المؤسسات الأهلية والقوى الفلسطينية، تأكيدًا على ضرورة الدعم والإسناد الشعبي، إذ سيتم جمع التبرعات لذلك، فيما تسعى الهيئة لإعادة بناء منزل عائلة أبو حميد في المكان ذاته، وليس من خلال شراء أو استئجار شقة لها، لتعزيز صمودها.

وفي ما يتعلق ببقية المنازل المهددة بالهدم، وإن كانت الهيئة ستطلق حملات أخرى للوقوف بجانب أصحابها، كما يحدث مع عائلتي الشهيدين صالح البرغوثي وأشرف نعالوة، قال عساف: "نحن لا نفرق بين منزل وآخر، اللجنة التي تم تشكيلها ستقرر ما ستفعله خلال الفترة المقبلة، وقد يكون من آليات عملها إعادة بناء المنازل المهددة بالهدم ومنها منازل الخان الأحمر. المرحلة الأولى بدأت في الأمعري، وربما قد تتشكل لجان أخرى في كل منطقة بهذا الخصوص، وهو التزام علينا يجب أن نقوم به".


النشطاء والمتضامنون أصروا على البقاء في منزل عائلة أبو حميد ليلة الجمعة – السبت، وصمموا على المواجهة، لكن المئات من جنود الاحتلال اقتحموا مخيم الأمعري مع ساعات الفجر الأولى، مئات الجنود من القوات الراجلة، دوريات عسكرية، ووحدات من قوات الهندسة، اقتحمت المخيم، ودهمت المنزل وقمعت النشطاء واعتدت عليهم بقنابل الصوت وغاز الفلفل والضرب، ثم اقتادتهم إلى ساحة مدرسة مجاورة، كما يبيّن الناشط في الهيئة عبد الله أبو رحمة لـ"العربي الجديد".

ورغم أن الاحتلال نجح بهدم المنزل، إلا أن أبو رحمة يؤكد أن النشطاء والهيئة تمكّنوا من خلق حالة توحيد للجهود بالتعاون مع كافة المؤسسات الأهلية والرسمية والشعبية، والتواجد بداخل المنزل قبل هدمه، والتجربة من الممكن أن تعمم، "فالحملات المنظمة التي يتم إطلاقها لها ناتج أكبر ويلتف الجميع حولها".

ولم يكن التضامن داخل منزل عائلة أبو حميد، بل إن المواجهات امتدت في شوارع مخيم الأمعري، إذ رشق الشبان جنود الاحتلال بالحجارة، وحاولوا التصدي للاقتحام، بينما أطلقت قوات الاحتلال الرصاص الحي والمطاطي، وقنابل الصوت على المحتجين والمتظاهرين، ما أوقع العشرات من الإصابات، بحالات اختناق وبجروح بالرصاص المعدني المغلف بالمطاط، والتي تمت معالجة العديد منها ميدانيًا، بينما أصيب 14 فلسطينيًا بإصابات مختلفة، جميعها طفيفة، وتم نقل المصابين لتلقي العلاج في المستشفى.