انشقاقات وخلاقات تضرب الأحزاب التونسية قبل انتخابات 2019

انشقاقات وخلاقات تضرب الأحزاب التونسية قبل انتخابات 2019

04 أكتوبر 2018
يكفي أن يتصالح السبسي والغنوشي لتوزع الأوراق مجدداً(أمين الأندلسي/الأناضول)
+ الخط -

لم يسلم حزب تونسي من التصدع والانشقاقات في الأشهر الأخيرة. وحتى تلك التي كانت تعتبر متماسكة وقوية وتحافظ على آليات واضحة في اتخاذ قراراتها، أصابتها الخلافات العميقة ولن تتأخر كثيراً لتلحق بركب الأحزاب التي طاولتها الاستقالات والتآكل. ويتساءل الجميع عن الأسباب الحقيقية للأزمة السياسية والفكرية التي تمر بها الأحزاب التونسية، وإن كانت المرحلة الانتقالية كفيلة بتفسير ما يحدث. لكن يبدو أن هناك أسباباً متداخلة وتفسيرات متقاطعة تجتمع كلها لتحليل هذه الظاهرة التي طاولت الأحزاب، القديمة والجديدة، اليمينية واليسارية والوسطية، الليبرالية والاجتماعية، الحاكمة والمعارضة، والتي أصيبت جميعاً بلعنة الحكم، ممارسة أو طموحاً في الممارسة.

ويؤكد رئيس كتلة "الائتلاف الوطني" والنقابي، مصطفى بن أحمد، لـ"العربي الجديد"، أن المشهد السياسي يتشكل من جديد خلال هذه الفترة، لا بدافع إعداد العدة لانتخابات 2019، الرئاسية والتشريعية، وإنما كرد فعل داخل هذه الأحزاب على ما آلت إليه الأمور داخلها واستفحال أخطائها وتواصل تعثرها في الإصلاح الداخلي. ويوضح أن الوضع السياسي اليوم كرمال متحركة مفتوحة على كل الاحتمالات. ووفق تقديره، فإن ما يعيشه "نداء تونس" وغيره من الأحزاب من انشقاقات وتصدعات، وتسارع وتيرة ذلك، يعود لحالة التعثر في المشهد السياسي، وردة فعل على الأزمة التي انطلقت في فبراير/ شباط الماضي. ولم ينف بن أحمد إمكانية أن تشكل كتلته حزباً قبيل الانتخابات. وقال "لا يمكن التنبؤ بما قد يحمله الواقع السياسي خلال الأشهر المقبلة، وستحافظ الكتلة على شكلها الحالي وتبقى رهينة التطورات من أجل تحويلها إلى تشكيل سياسي قائم بذاته".
وما أحدثته كتلة "الائتلاف الوطني"، التي يؤكد الجميع اليوم أنها قد تشكل نواة ممكنة لحزب جديد يقوده رئيس الحكومة يوسف الشاهد، كان بمثابة الزلزال الذي غيّر كل المعادلة السياسية في تونس، فالائتلاف تشكل أساساً من انفجار "نداء تونس"، ويقوم يومياً تقريباً بعملية سحب وامتصاص كلي لمخزونه البرلماني والجهوي. لكن الكتلة، بما تمثله من قوة سياسية جديدة، نبتت بسرعة عجيبة في أرض متعرجة، لم تضرب "النداء" فقط، وإنما هي بصدد إعادة ترتيب التحالفات، إذ جلبت إليها "حركة النهضة" و"الاتحاد الوطني الحر" وبعض نواب "مشروع تونس" وقياداته، بالإضافة طبعاً إلى الوجوه الندائية التي تراهن جميعها على رجل المرحلة الجديدة، الشاهد.

لكن بن أحمد يدرك أن ما يشير إليه يمثل حقيقة ثابتة في المشهد السياسي التونسي، عندما يتحدث عن طرح كل الاحتمالات والرمال المتحركة وعدم القدرة على التنبؤ بشيء في الوضع الراهن، وهو ما يؤكد هشاشة الأرضية التي تقوم عليها الممارسة السياسية في تونس. ويرى متابعون أنه يكفي أن يتصالح الشيخان، الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وزعيم "النهضة" راشد الغنوشي، مثلاً، لكي يعاد توزيع كل الأوراق من جديد. كما يكفي أن يتعثر الشاهد أو كتلته الجديدة، أو أن يغير "الاتحاد الوطني الحر" موقفه من التحالف الجديد، لتتغير أشياء كثيرة في هذا الوضع الهش المفتوح على كل الإمكانيات. لكن أزمة الأحزاب التونسية، التي ضربت أساساً "نداء تونس" في العمق، لم تتوقف عند هذا الحد، فحمى الانشقاقات طاولت "آفاق تونس" عندما تمرد وزراؤه على قيادة الحزب، وخرجت منه قيادات بارزة، مع توقعات باستقالات مقبلة بسبب تفرد رئيس الحزب بالإدارة. وشهد "حراك تونس الإرادة"، الذي أسسه الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، سلسلة استقالات مدوية أخيراً، وبدأ الحزب يبحث كيفية الحد من تداعياتها من خلال التحالف مع رفاق الأمس الذين شكلوا أحزاباً أخرى. كما ضربت الأزمة "الاتحاد الوطني الحر" و"مشروع تونس" و"الجمهوري" و"المسار" والقوى الدستورية المتفتتة بين أحزاب كثيرة.



ولم تنج في الظاهر غير "الجبهة الشعبية" اليسارية و"حركة النهضة". لكن هذه الأحزاب تعرف بدورها أزمات من نوع آخر، برغم نجاحها في المحافظة على رصيدها البرلماني وتماسكها السياسي. ويؤكد القيادي في "الجبهة الشعبية" وأمين عام "حزب الوطنيين الديمقراطيين" (أحد مكوناتها)، زياد لخضر، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه لا يمكن توصيف الزخم والاختلاف في الرأي داخل "الجبهة" بالصراع، إذ تختلف عن الصراعات التي تعيشها أحزاب أخرى محورها اقتسام السلطة وإزاحة أطراف لتعويضها بأخرى، وإنما الخلافات داخل "الجبهة" بعيدة عن السلطة، ولا خلاف داخلها في التقدير السياسي العام حول وضع تونس وحول موقفها من الأطراف الحاكمة. ويشير إلى أن المواقف التي صدرت عن بعض قيادييها أخيراً لم تحمل تقييماً مغايراً للموقف العام للجبهة، وإنما عبرت عن آراء حول قضايا محددة تتعلق بأداء الجبهة بعد محطة انتخابية أتت بنتائج غير مرضية لا للفاعلين داخلها ولا لجمهورها، علاوة على أسئلة أخرى حيال أي تغييرات لخوض الاستحقاقات المقبلة، وبذلك يكون الصراع داخلها من أجل تعزيز راية "الجبهة" وعلى أرضيتها التي بنيت عليها. ويوضح لخضر أن "الجبهة الشعبية" لم تبن على انتخابات حتى تتفتت من الداخل، قبلها أو بعدها، كما يحدث في أحزاب أخرى، وإنما بنيت من أجل استكمال تحقيق أهداف الثورة، والاستحقاقات السياسية الانتخابية محض محطات وليست محور مشروع ناشئ له من العمر خمس سنوات فقط. ويعتبر أن الأهم بالنسبة لقيادات "الجبهة" هو التغيير الذي يجب إدخاله على أدائها، حتى يكون خطابها مقنعاً ومؤثراً وقادراً على كسب ثقة فئة من التونسيين الطامحين لتحقيق أهداف ثورتهم.

ولا تسلم "حركة النهضة" بدورها من هذا المشهد. إذ إنه وبرغم تماسكها ونجاحها في المحافظة على قوتها البرلمانية وتماسك قراراتها، فإن عدداً من قادتها عبر صراحة عن مواقف مغايرة لقرارات الحزب المعلنة، فيما تسارع الحركة بالتأكيد على أنها مواقف شخصية لا تعبر عن موقف مؤسساتها، لكنها تعكس أيضاً خلافاً في تقييم هذه القرارات أو الخيارات. لكن معظم شخصياتها السياسية تحاول أن تحافظ على ترتيب الأولويات بالنسبة إليها، وعلى رأسها تماسك الحركة وتحصينها من عدوى الانقسامات والانشقاقات، وخصوصاً أنها أصبحت القوة السياسية الأولى في تونس وارتفعت رهاناتها بشكل واضح مع تآكل بقية الأحزاب. ومع دخول الأحزاب التونسية العام الأخير من الولاية الرئاسية، وبداية الاستعداد لانتخابات 2019، يرى كثر أن المشهد قد يبدأ في الاستقرار بعدها، لكن في انتظار ذلك، فإن مراقبين يعتبرون في المقابل أن الزمن السياسي طويل جداً وشاق إلى ذلك الموعد، وأن الضحايا على أرصفته سيكونون كثراً، إذ تعبث طموحات النخبة السياسية في كل الأحزاب بالجميع، ما سيقود إلى صراعات قوية داخلها، وستكون التداعيات قاصمة للظهر بعدها، وسيكون الحساب عسيراً جداً على الجميع. وبقي أن أمنية التونسيين هي الوصول إلى هذا الموعد بأقل الأضرار الممكنة، ودون تهديد المسار الديمقراطي وحرية التعبير، في انتظار أن ينتهي الساسة من صراع الحكم ويبدأوا رحلة الصراع من أجل حياة التونسيين.