لهذه الأسباب لم يعلن السيسي حقيقة أزمة "المبادرة" بباريس

لهذه الأسباب لم يعلن السيسي حقيقة أزمة "المبادرة" بباريس

12 ديسمبر 2020
أصر الفرنسيون على استعادة الأولوية بصفقات السيسي العسكرية (Getty)
+ الخط -

في حواره مع صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، والذي نشر قبيل انتهاء زيارته الرسمية إلى باريس، تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن الأزمة الأخيرة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية والقبض على ثلاثة من نشطائها، مفضلاً الإدلاء بمعلومات خاطئة وغير سليمة عن مسار التحقيقات الذي سلكته القضية.
وجاء ذلك في إطار محاولات بدأتها السلطات منذ الأيام الأولى للقبض على الناشطين الثلاثة، لتصوير الأمر وكأنه يتعلق بمشكلة في تقنين أوضاع المنظمة، والتعتيم على الحقيقة، وهي أن النشطاء تم ضمهم إلى واحدة من أخطر القضايا التي فتحتها النيابة العامة والأجهزة الأمنية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وما زالت أموالهم متحفظاً عليها على ذمة اتهامهم في القضية، على الرغم من إخلاء سبيلهم قبل يومين من سفر السيسي إلى باريس. وقال السيسي للصحيفة: البعض صنعوا قصة كبيرة من القبض على أعضاء المبادرة، والمشكلة تكمن في أنهم سجلوا أنفسهم كشركة تجارية انتهاكاً لقانون 2019 المنظم لأنشطة الجمعيات التي لا تهدف إلى الربح.

التحقيقات لم تتناول من قريب أو بعيد مسألة تقنين عمل المبادرة أو وضعها التنظيمي

لكن مصادر قضائية وأخرى حقوقية، تابعت التحقيقات مع النشطاء الثلاثة، كشفت، لـ"العربي الجديد"، أن التحقيقات لم تتناول من قريب أو بعيد مسألة تقنين عمل المبادرة، أو وضعها التنظيمي، بل اقتصرت على أنشطة قامت بها المبادرة من فعاليات وندوات وتقارير أصدرتها بشأن قضايا تعتبر السلطات المصرية أن الإعلان عنها ينطوي على انتهاك للقوانين وإساءة لسمعة الدولة بالخارج. كما اقتصرت على ترديد للشائعات والأكاذيب عن سياساتها في الداخل، مثل الأوضاع الحقوقية والإنسانية للمثليين، وأوضاع السجناء الصحية والنفسية في ظل جائحة كورونا، وحالات الإعدام المتسارعة في الآونة الأخيرة، ما أدى إلى زيادة معدلات تنفيذ أحكام الإعدام بصورة كبيرة، عما كان معتاداً في السنوات الماضية.

وعلى هذا الأساس، جاءت تحريات الأمن الوطني في القضية تتهم العاملين في المبادرة بالحصول على أموال من جهات أجنبية، بعضها معلوم وبعضها الآخر غير معلوم، لإعانتهم على إعداد تلك التقارير والقيام بالأنشطة المناهضة للدولة المصرية. ولكن المخالفة الجوهرية فيها، بحسب التحريات، هي احتواؤها على معلومات كاذبة ومضللة وأخرى سرية غير مسموح بالكشف عنها. وتقوم السردية الأمنية لهذه التحريات على افتراض أن أعضاء المبادرة متعاونون مع عدد من الشخصيات الحقوقية والسياسية الأخرى، خارج السجن وداخله، إذ يشتركون معهم في الحصول على تلك المعلومات، ويفرغونها في تلك الأنشطة الهادفة للإساءة للدولة ونشر الأكاذيب عنها.

وذكرت المصادر أن مسألة نشر الشائعات، وإيصال معلومات كاذبة للإعلام الغربي والدوائر الدبلوماسية الأوروبية، هي العامل المشترك الوحيد بين جميع المتهمين في القضية التي أضيف لها نشطاء المبادرة، رقم 855 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا، والتي تضم عدداً كبيراً من المتهمين لا تجمعهم أي روابط تنظيمية أو تنسيقية، وتوجه لهم اتهامات متنوعة بعضوية جماعة إرهابية محظورة، واستخدام حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر الإشاعات الهادفة للإخلال بالسلم والأمن العام.

وأوضحت المصادر أن النيابة وجهت، في وقت سابق، لعدد من المتهمين في هذه القضية، ومنهم الحقوقي محمد الباقر ومسؤول حملة ترشح الفريق سامي عنان لرئاسة الجمهورية حازم حسني، وغيرهما، اتهامات بأنهم يبلغون معلومات كاذبة إلى سفارات ودبلوماسيين ودوائر حقوقية من داخل السجن، وكذلك الفترة السابقة على حبسهم على ذمة قضايا أخرى، وتم إخلاء سبيل بعضهم على ذمة القضايا السابقة المتعلقة بأمور أخرى، أو تعود للأعوام بين 2016 و2018. ووفقاً للمصادر الحقوقية، فإنه يمكن وصف جميع الوقائع المسندة للمعتقلين في هذه القضية بأنها ملفقة، وتهدف فقط لإبقائهم في السجن لأطول فترة ممكنة. لكنها، في الوقت نفسه، تحمل اتهامات خطيرة يمكن تحريكها في أي وقت، سواء لإصدار حكم قاسٍ، أو للإدراج على قائمة الإرهاب، أو للتحفظ على الأموال. على الرغم من أن هذا النوع من القضايا التي تضم عدداً كبيراً من المتهمين بوقائع مختلفة يسهل غلقه وعدم استكمال التحقيقات فيها وصولاً للمحاكمة. وتزعم السردية الأمنية أن جميع المتهمين في القضية حصلوا على أموال طائلة بشكل غير مشروع بهدف الإساءة لسمعة مصر.

تزعم السردية الأمنية أن جميع المتهمين في القضية حصلوا على أموال طائلة بشكل غير مشروع بهدف الإساءة لسمعة مصر

وبهذه المزاعم، فإن القضية ينطبق عليها المادة 78 من قانون العقوبات، سيئة السمعة، التي أصدرها السيسي في سبتمبر/أيلول 2014 قبل انقضاء نصف عام في القصر الرئاسي، والتي تعاقب "كل من طلب لنفسه أو لغيره، أو قبل أو أخذ ولو بالواسطة من دولة أجنبية، أو ممن يعملون لمصلحتها، أو من شخص طبيعي أو اعتباري، أو من منظمة محلية أو أجنبية، أو أية جهة أخرى لا تتبع دولة أجنبية ولا تعمل لصالحها، أموالاً سائلة أو منقولة، أو عتاداً أو آلات أو أسلحة أو ذخائر أو ما في حكمها، أو أشياء أخرى. أو وعد بشيء من ذلك بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية، أو المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها، أو القيام بأعمال عدائية ضد مصر أو الإخلال بالأمن والسلم العام، يعاقب بالسجن المؤبد وبغرامة لا تقل عن 500 ألف جنيه، ولا تزيد على ما أعطي أو وعد به".

وأثار هذا النص عند صدوره قلقاً ومخاوف واسعة في المجتمع الحقوقي والسياسي المصري. وطالبت دول مختلفة بالتراجع عنه بلا طائل، إذ تسمح صياغته الواسعة والفضفاضة بافتراض سوء النوايا وراء أي عملية تمويل أجنبي لأي نشاط لا ترضى عنه السلطات المصرية. فضلاً عن سماحه للقضاء باعتبار المساعدات أياً كان نوعها تمويلاً أجنبياً، والتفافه على مبدأ افتراض البراءة، وتركيزه على مرحلة الشروع التي يمكن تدبيرها بواسطة التحريات الأمنية. إذ جعل الحصول على التمويل بحد ذاته أمراً يستوجب العقاب، بغض النظر عن ارتكاب مخالفة أو حدوث جريمة.

وبدلاً من الدخول في كل هذه التعقيدات، التي ربما تجعل من الواجب الإفراج عن المزيد من المعتقلين المتماثلين في الاتهامات مع نشطاء المبادرة، ويمكن أن تفتح باباً لا يوصد من التساؤلات عن كوارث حقوقية أخرى في مصر، مثل تخطي فترات الحبس الاحتياطي والقضايا المعدة لتدوير المعتقلين وأوضاع حرية الرأي والبحث والصحافة والمعتقدات، فإن السلطات المصرية اختارت الجمع بين قمع المبادرة وإرهابها بواسطة القضية 855 على النحو السابق ذكره، وبين استخدام الأزمة الأخيرة كرسالة تحذير لكل منظمة تحاول العمل خارج منظومة قانون العمل الأهلي الجديد ولائحته التنفيذية التي لم تصدر حتى الآن بشكل رسمي. إذ ادعت أن الأزمة كانت في تقنين الأوضاع، مع ترحيب وزارة التضامن والجهات الأمنية بتوفيق أوضاعها، بعدما كانت الوزارة تعرقل مساعي المبادرة لذلك في السنوات الماضية.

واكتسبت زيارة السيسي إلى باريس أهمية استثنائية بسبب الوضع الحالي لحقوق الإنسان في مصر، وإصرار الفرنسيين في الوقت نفسه على استعادة الأولوية في صفقات السيسي العسكرية والاقتصادية، وتلافي الآثار السلبية التي وقعت على مجالات الاستثمار وبيع الأسلحة في العامين الأخيرين، بالنظر إلى حجم الصفقات التي أبرمها الجيش المصري والحكومة مع إيطاليا وألمانيا. وواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتقادات لاذعة بسبب تعامل حكومته المتقدم مع السيسي في السنوات الماضية، وبصفة خاصة في ملف التسليح، امتداداً لهجوم سابق من منظمات عدة، أبرزها منظمة العفو الدولية، بسبب تصديرها أسلحة مختلفة استخدمت في قمع المدنيين داخل البلاد. وأكدت، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، أن قوات الأمن المصرية قامت بإطلاق النار على المتظاهرين من داخل سيارات مدرعة ورّدتها فرنسا، من طراز "شيرباس" و"إم آي دي إس"، استخدمت خلال بعض الأحداث الدامية.

ووفقاً لمصادر دبلوماسية مصرية، فإن زيارة السيسي شهدت تقديم ماكرون وفريقه لملفات التعاون الثنائي في المجال العسكري والاقتصادي والاستخباراتي على ملف حقوق الإنسان. وتم الاتفاق على عقد شراكات عسكرية طويلة الأمد مع عدد من المصنعين الفرنسيين، لتحافظ باريس على مكانتها كالدولة الأكثر تصديراً للأسلحة إلى القاهرة في عهد السيسي، وعبر إنشاء مشاريع لتصنيع تلك الأسلحة في مصر، إلى جانب التوصل لاتفاقات حصول مصر على قروض تنموية بقيمة تتخطى الملياري يورو، وكذلك حصول فرنسا على حصة ثابتة "كوتا" من التعاقدات الحكومية المخصصة للمستثمرين الأجانب، خصوصاً في مجالات الصحة والتعليم والرقمنة.