عودة التنسيق الأمني مع الاحتلال: سلفة فلسطينية لبايدن بلا ثمن

عودة التنسيق الأمني مع الاحتلال: سلفة فلسطينية لبايدن بلا ثمن

19 نوفمبر 2020
يعد موضوع رواتب الأسرى بمثابة قنبلة موقوتة (مصطفى حسونة/الأناضول)
+ الخط -

بعد ستة أشهر من قطع السلطة الفلسطينية علاقاتها مع الاحتلال، أعلن رئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ، أول من أمس الثلاثاء، استئناف العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، بموجب رسالة رد تسلمتها السلطة من الحاكم العسكري الفعلي للأراضي الفلسطينية المحتلة الجنرال كميل أبو ركن. لكن هذه العودة المعلنة للعلاقة مع إسرائيل من دون أي ثمن، والتي تأتي حتى قبل وصول الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض رسمياً، تسببت بانتقادات واسعة في الداخل الفلسطيني. 
كما أثارت الخطوة "المجانية" توقعات وهواجس بأن تتبع هذا الإعلان عن عودة التنسيق، الذي جاء ضمن حسابات خاصة بالسلطة كانت قد مهدت لها في اجتماع عقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تنازلات فلسطينية إضافية تقدم للإدارة الأميركية وإسرائيل على حد سواء. وأبرز ما يرجح أن تتضمنه قبول فلسطيني ضمني بأي مشاريع استيطانية، أي "الضم الصامت"، طالما لن تعلن عنه إسرائيل كخطة مرة واحدة، وتصفية موضوع مخصصات الأسرى والشهداء المؤرق لإٍسرائيل، عبر تعديل قانون دفع الرواتب المخصصة لهم، وتحويلهم من قضية وطنية وسياسية إلى اجتماعية، وذلك مقابل الشروع بمسار سياسي يضمن بقاء القيادة الفلسطينية.

مخاوف من أن توافق السلطة على تصفية موضوع مخصصات الأسرى والشهداء المؤرق لإسرائيل

وحسب ما رشح من معلومات، لـ"العربي الجديد"، فإن تصريحات الشيخ حول "الانتصار العظيم" الذي تم تحقيقه بعودة المسار السياسي مع الاحتلال الإٍسرائيلي، وفق ركيزة الاتفاقيات الموقعة مع الإدارة الأميركية، لم تعلم به الفصائل الفلسطينية قاطبة، فضلاً عن عدم علم أمين سر اللجنة المركزية لحركة "فتح" جبريل الرجوب، الذي كان يقوم بمحادثات لإنهاء الانقسام مع حركة "حماس" في مصر. وأكدت مصادر رفيعة المستوى، لـ"العربي الجديد"، أن ما جرى ضربة للمصالحة الفلسطينية، التي استخدمها الرئيس محمود عباس كورقة ضغط وتهديد بوجه الاحتلال وإدارة الرئيس الأميركي الخاسر في الانتخابات دونالد ترامب، وليس كخيار استراتيجي وطني.
وأعلن الشيخ، الذي يتولى ملف "العلاقات مع إسرائيل" بشكل رسمي منذ مرض أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات وحتى رحيله أخيراً، أمس الأربعاء، أنه "على ضوء الاتصالات التي قام بها الرئيس بشأن التزام إسرائيل بالاتفاقيات الموقعة معنا، واستناداً إلى ما وردنا من رسائل رسمية مكتوبة وشفوية، بما يؤكد التزام إسرائيل بذلك، سيعود مسار العلاقة مع إسرائيل كما كان".
الشيخ والإعلام الرسمي الفلسطيني اعتبرا رد منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة الجنرال كميل أبو ركن "انتصاراً عظيماً"، على الرغم من أنه جاء بعد شهر وعشرة أيام من توجيه رسالة له. وكانت السلطة الفلسطينية قد أرسلت رسالة إلى أبو ركن، بتاريخ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، جاء فيها: "لقد طلبنا رداً على سؤال من جانبنا، ونحن لم نتلق إجابة حتى الآن. السؤال هو: هل حكومة إسرائيل ملتزمة بالاتفاقيات والمعاهدات الموقعة مع الفلسطينيين ومع منظمة التحرير أم لا؟ والتي تشكل مرجعاً للعلاقات الثنائية بين الطرفين منذ عام 1993. نأمل في الحصول على إجابة".

وجاء رد أبو ركن، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، على النحو التالي: "السيد حسين الشيخ. الوزير الفلسطيني للشؤون المدنية... عزيزي. بناء على رسالتكم المؤرخة في 7/10/2020، فإن إسرائيل قد أكدت سابقاً أن الاتفاقيات الثنائية الإسرائيلية الفلسطينية مستمرة في تنظيم الإطار القانوني المناسب للطرفين في ما يتعلق بالجانب المالي والقضايا الأخرى. وبالتالي، وبما يتفق مع هذه الاتفاقيات، فإن إسرائيل مستمرة في تحصيل أموال الضرائب لصالح السلطة الفلسطينية، في حين أنّ السلطة الفلسطينية هي التي قررت عدم استلام هذه الأموال التي تقوم إسرئيل بجمعها. احترامي... الجنرال - كمال أبو ركن... منسق أعمال الحكومة في المناطق".

أقرت السلطة الفلسطينية بأن سقفها هو رئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية، وهو الحاكم العسكري للضفة الغربية

ومن الواضح أن الرسالة الفلسطينية أرسلت قبل الانتخابات الأميركية، لأنها عازمة على تبريد العلاقة مع إسرائيل، بغض النظر عما إذا فاز ترامب أو بايدن، بينما جاء الرد الإٍسرائيلي بعد الانتخابات الأميركية بأسبوعين. ويعتبر ما سبق إقراراً من السلطة الفلسطينية بأن سقفها هو رئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية، وهو الحاكم العسكري للضفة الغربية، ويقيم في مستعمرة "بيت أيل" المقامة على أراضي قرى رام الله، والتي لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن بيت عباس في منطقة البالوع في رام الله. وهو، أي أبو ركن، من يمنح عباس وجميع أفراد الصف الأول من القيادة الفلسطينية تصاريح المرور بمواكبهم والسفر والحركة، فضلاً عن التسهيلات الاقتصادية وتصاريح العمال والمرضى، وكل ما يتعلق بالحياة تحت الاحتلال بالضفة الغربية، أي بالضبط كما صرّح الراحل عريقات أكثر من مرة: "إن رئيس الإدارة المدنية الإٍسرائيلية هو الحاكم العسكري للضفة الغربية المحتلة".
ويتبين من الرسائل المتبادلة أن قرار القيادة الفلسطينية بالعودة إلى التنسيق جاء على الرغم من أنها لم تقبض أي ثمن سياسي، أو تحصل على أي تعهد بإلغاء ضم 30 في المائة من أراضي الضفة الغربية المحتلة. وهي لم تناور، أو تتصنع العناد، ولو تكتيكياً، أمام إسرائيل أو الإدارة الأميركية. وكما هو واضح في رد الحاكم العسكري فإنه لم يحصل أي تغيير بمواقف إسرائيل، وأن السلطة هي التي رفضت تسلم عائدات الضرائب.
يبقى أن موقف السلطة هذا لم يكن مفاجئاً، بل تم التمهيد له منذ أواخر الشهر الماضي، إذ تم التوافق عليه في اجتماع للقيادة، كانت "العربي الجديد" قد أشارت إليه بتاريخ 28 أكتوبر الماضي، حيث كان واضحاً من الاجتماع المصغر جداً، الذي تم برئاسة عباس وحضور رئيس المخابرات العامة ماجد فرج ورئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ ورئيس الحكومة محمد اشتية وآخرين، أن القيادة نادمة على كل القرارات التي اتخذتها ضد إسرائيل بتاريخ 19 مايو/ أيار الماضي، والتي تقضي بوقف كافة أشكال العلاقة مع إسرائيل، وتجلت على شكل وقف التنسيق المدني، ووقف تزويد السجل السكاني في مقر الإدارة المدنية الإسرائيلية بأسماء المواليد الفلسطينيين الجدد. وهذا الأمر جعل نحو 40 ألف مولود فلسطيني في الأشهر الستة الماضية غير معترف بهم من قبل إسرائيل، ولا يستطيعون السفر مع ذويهم.
وكان واضحاً منذ ذلك الحين أن القيادة تريد أن تصلح الضرر قدر الإمكان، ودون أن تقبل علانية بـ"صفقة القرن"، التي تنهي وجود السلطة الفلسطينية وتحولها إلى سلطة بلديات لا أكثر. وأدركت القيادة الفلسطينية أن جميع القرارات التي اتخذتها قد عادت عليها بالضرر ولم تلو ذراع إسرائيل، لا سيما بعد الهرولة العربية نحو التطبيع. فجميع هذه القرارات متأخرة على الأقل 10 سنوات، ولا توجد لها إرادة سياسية أو حاضنة شعبية حتى تنجح.

المحلل هاني المصري: توجد 3 أسباب وراء إعادة السلطة للعلاقات مع إسرائيل
 

وعلى الرغم من القرارات التي اتخذتها السلطة، تحت عنوان وقف التنسيق الأمني في مايو الماضي، إلا أنه لا يوجد فلسطيني واحد كان مقتنعاً بأنها قد أوقفت التنسيق الأمني بشكله العميق، والذي يحفظ أمن إسرائيل ومستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة. ولعل أبرز دليل على ذلك تصريح حسين الشيخ، في 8 يونيو/ حزيران الماضي، في صحيفة "نيويورك تايمز". وأجاب يومها، رداً على سؤال حول كيفية رد قوات الأمن إذا علمت بنية فلسطيني مهاجمة إسرائيليين؟ إنهم سيقبضون عليه إذا كان لا يزال في الضفة الغربية. لكن إذا كان المهاجم موجوداً بالفعل داخل إسرائيل، فقد لمّح إلى أن الفلسطينيين قد يحذرون إسرائيل من خلال وسيط، قائلاً: "سأجد طريقة لإيقافه".
وما تقوم به السلطة الفلسطينية من خطوات الآن هو ترجمة حرفية لما رشح عن اجتماعها المصغر في أكتوبر الماضي، حيث خلص المجتمعون إلى عدم وضع أي شروط مسبقة على الإدارة الأميركية وإسرائيل وغض البصر عن الاستيطان. على اعتبار أنه لطالما كانت هناك مفاوضات فلسطينية إسرائيلية في العقود الثلاثة الماضية من دون أن يتوقف الاستيطان. كما تبنى المجتمعون يومها تبريد العلاقة مع إسرائيل، التي ستقود إلى فتح علاقة دافئة مع الرئيس الأميركي، سواء بايدن أو ترامب، والانتهاء من ملف الأسرى.
وبرأي الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري، الذي تحدث مع "العربي الجديد"، فإنه توجد 3 أسباب وراء إعادة السلطة للعلاقات مع إسرائيل. أولاً، السلطة تريد أن تؤمن نفسها، فسياستها تقوم على البقاء والانتظار، وثانياً تسعى إلى تمهيد الطريق نحو إدارة بايدن، لدرجة أن القيادة ليست لديها قدرة على الانتظار لتحسين شروط التفاوض، وثالثاً، الأزمة الاقتصادية التي تمر بها السلطة بسبب الحصار المالي وتفشي كورونا.
ويعد موضوع الأسرى بمثابة قنبلة لم تنفجر بعد في وجه السلطة الفلسطينية، بسبب عدم تصريح المسؤولين بأي شي حول القضية حتى الآن. وتعتبر شريحة الأسرى والأسرى المحررين مهمة جداً، وصوتها مرتفع، إلى جانب أن غالبية الأسرى من حركة "فتح". لذلك ستحرص القيادة على تخريج الموضوع بأقل خسائر ممكنة، وعلى جرعات كعادتها. وكان المجتمعون في الاجتماع المصغر في أكتوبر قد أكدوا على أهمية الانتهاء من ملف الأسرى بأسرع وقت ممكن عبر تغيير القانون، وأن مخصصات الأسرى لن تكون حسب سنوات الاعتقال، بل حسب وضع الأسير الاجتماعي، أي تحويلهم إلى قضية اجتماعية، لأن الانتهاء من هذا الملف مطلب إسرائيلي وأوروبي، ومهم جداً لتأكيد حسن النوايا لإدارة بايدن، التي وعدت خلال حملتها الانتخابية بإعادة المساعدات المالية إلى السلطة وافتتاح القنصلية الأميركية في القدس المحتلة. والحديث هنا عن السفارة الأميركية في القدس الغربية، وليس القدس الموحدة، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن وإعادة المساعدات لوكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين (أونروا).
ولعل أبرز دليل على إعطاء إسرائيل القيادة الفلسطينية وقتاً لإنهاء ملف الأسرى هو قيام دولة الاحتلال في 29 أكتوبر الماضي، بإبلاغ السلطة الفلسطينية قرارها بعدم تجديد تجميد الأمر العسكري القاضي بمعاقبة البنوك الفلسطينية التي تدير حسابات بنكية للأسرى والمحررين، وأن قرار معاقبة البنوك الفلسطينية سيدخل حيز التنفيذ في 31 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ولن يكون هناك أي تجميد للأمر العسكري، وعلى البنوك أن تتحمل المسؤوليات المترتبة على ذلك.
وبالفعل قامت هيئة شؤون الأسرى في كل المحافظات الفلسطينية، في الأسبوعين الماضيين، بمخاطبة الأسرى المحررين، وطلبت منهم تعبئة نموذج عمل، من المتوقع أن يتم توزيعهم على أساسه على الوزارات والمؤسسات الفلسطينية المختلفة، بحيث يصبحون تابعين لها ويحصلون على مخصصاتهم من هذه الوزارات، وليس من هيئة شؤون الأسرى والمحررين. وقد سارع الآلاف من الأسرى المحررين لملء هذه النماذج للحفاظ على مخصصاتهم.
وقال الباحث في مركز "مسارات" رازي النابلسي، لـ"العربي الجديد"، إن الخطير في الأمر أنه للوهلة الأولى قد يظهر أن مخصصات الأسرى والشهداء ما زالت مستمرة، ولا يوجد أي تغيير في هذا الموضوع. هذا غير صحيح، حيث سيصار إلى تغيير الإطار الذي سيتم صرف المخصصات من خلاله، وهو تغيير عميق على مكانة وصورة ووجود عوائل الأسرى والشهداء، وهو بالأساس يقوم على تحويلها من عوائل ذات مكانة سياسية ووطنية واجتماعية إلى عائلات محتاجة، وتفتقد إلى معيل ورب العائلة، وبالتالي يصبح تحويل المخصصات إلى عائلات محتاجة، وهذا تغيير جوهري وعميق. واعتبر أن استراتيجية القيادة الفلسطينية، في ظل استعادة الأمل بعودة المسار السياسي، تقوم على تقديم تنازلات مستمرة من دون أن تضع سقفاً لهذه المفاوضات أو مطالب عالية. ولفت إلى أنّ "الغريب أن القيادة الفلسطينية تقدم تنازلات قبل بدء المفاوضات، وقبل بدء مسار سياسي، وحتى قبل وصول بايدن إلى البيت الأبيض، وهذه الاستراتيجية ستؤدي إلى مزيد من التفتت في الحالة السياسية الفلسطينية، دون تحقيق أي شيء يذكر".