ديار بكر... آثار التهميش والصراع راسخة

ديار بكر... آثار التهميش والصراع راسخة

02 يناير 2021
المظاهر العسكرية منتشرة في المدينة (الأناضول)
+ الخط -

لا يفارق شعور الإقصاء والتهميش سكان مدينة ديار بكر

بعض الأحياء التي هُدمت لا تزال مغلقة أمام الأهالي

لا تزال منارة الأرجل الأربع التاريخية في قلب مدينة ديار بكر القديمة بجنوب شرق تركيا، تحمل آثار اشتباكات مضت عليها 5 سنوات، بين مسلحين تابعين لحزب العمال الكردستاني والجيش التركي، بعد الإعلان عن تأسيس مناطق حكم ذاتي، أسوة بتلك التي أعلنت في سورية، وذلك في عام 2015. ويختصر المشهد حال المدينة القديمة ومشاكلها، إذ إنّ آثار الطلقات المتبقية على أعمدة المنارة تختزل حكاية ديار بكر التي هُمشت لعقود طويلة، وتسعى الحكومة الحالية التابعة لحزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى تقديم مقاربة مختلفة للتعاطي معها، في محاولة لإحيائها بمشاريع تنموية عديدة. وهو ما بدا واضحاً في مشاريع نفّذها الوكيل منير كارال أوغلو الذي عينته الحكومة بدلاً عن رئيس البلدية المقال عدنان سلجوق مزراقلي، المنتخب من قبل أبناء المدينة ذات الغالبية الكردية، بالإضافة إلى المساعي لإظهار التطورات الحديثة مقابل ما كان الوضع عليه سابقاً، فضلاً عن إيلاء الوزارات اهتماماً بتنفيذ أي طلبات تأتي من الوكيل للتسريع في تقديم الخدمات. لكن كل ذلك لا يبدو كافياً بالنسبة لجزء من أبناء المدينة الذين لا يفارقهم شعور الإقصاء والتهميش.

المظاهر العسكرية لا تخفى على أعين أحد في المدينة؛ سيارات مكافحة الشغب تتجول في كل الأحياء، وترصد كل حركة أو طارئ قد يحصل، إضافة إلى عربات الجيش والشرطة، وذلك على الرغم من أنّ هناك تسليما واضحا في المدينة لما آلت إليه الأمور قبل أكثر من عام، عندما تمّ عزل رئيس البلدية عن حزب الشعوب الديمقراطي عدنان سلجوق مزراقلي، وتكليف الوالي منير كارال أوغلو قائماً بعمل البلدية. إذ لم تشهد المدينة أي اعتراضات على هذا الإجراء، على الرغم من أن مزراقلي لم يكن قد مضى سوى أشهر على توليه مهامه.


هدوء المدينة يحمل في أعماقه صخباً مختلفاً من الصراع بين الأكراد أنفسهم

في الأحياء القديمة، كانت الحكومة قد سعت إلى الإسراع في تنفيذ التحول العمراني، إذ إنّ البيوت القديمة المتهالكة كان قد صدر قرار بإعادة تأهيلها. وعلى الرغم من جميع الموافقات الحكومية اللازمة، إلا أنّ حزب الشعوب الديمقراطي لم يعمل على تنفيذ المشروع، ومقابل ذلك عمل على إلقاء اللوم على الحكومة. لكن اليوم، وخلال التجول في هذه الأحياء، يمكن رؤية البيوت الجديدة وفق الطراز المعماري المقرر بوضوح في هذه المنطقة حالياً كإنجاز حكومي، فيما لا تزال الأحياء التي شهدت الاشتباكات الطويلة والتي تهدمت بفعلها قبل سنوات، مغلقة أمام الأهالي والزائرين لحين إتمام إعادة إعمارها.

الطابع المحافظ لديار بكر يمكن رؤيته بوضوح كذلك في الأحياء والشوارع العامة، ولكن هدوء المدينة يحمل في أعماقه صخباً مختلفاً من الصراع بين الأكراد أنفسهم. يقول مواطنون ومثقفون مناوئون لسياسات "الكردستاني"، لـ"العربي الجديد"، إنّ الظروف والأسباب التي رافقت تأسيس "العمال الكردستاني" لم تكن فقط للدفاع عن حقوق الأكراد وتعزيز النزعة الانفصالية وحسب، بل كان من مهام الحزب العمل على تحويل الأفكار الأيديولوجية للمجتمع المحافظ، وجعلها مناسبة على مقاس الدول الداعمة لـ"الكردستاني".

ولعل اعتصام الأمهات أمام مقر حزب الشعوب الديمقراطي منذ أكثر من عام للمطالبة بعودة أبنائهن من صفوف "الكردستاني"، يلخص الصخب داخل المدينة بين الأكراد أنفسهم. اعتصام الأمهات الذي وضع الطبقة السياسية الكردية ممثلة بـ"الشعوب الديمقراطي"، أمام حقيقة المجتمع، يشهد يوميات مثيرة، فما إن يُفتح باب مبنى الحزب لدخول أحد المسؤولين أو خروجهم، حتى تهجم الأمهات عليه بالاتهامات بنقل أبنائهن إلى الجبال، فيما يرد أولئك المسؤولون بالقول: "كان عليكم الانتباه لأولادكم". ويتبادل الطرفان خلال ذلك الشتائم والحركات المسيئة، وهو أمر يمكن رؤيته بشكل يومي وبوضوح من قبل الجميع، فيما تحول قوى الشرطة دون التحام الطرفين. وتدعم الحكومة الاعتصام بتوفير خيمة مع الخدمات كافة، وتقديم الطعام للأمهات، والمأوى لمن أتين من خارج المدينة، ليكون هذا المشهد اليومي، ملخصاً للتغيرات التي شهدتها المدينة. ولم يكن في السابق ممكناً للمجتمع التعبير عن آرائه ضدّ ممارسات الحزب، خوفاً من الانتقام بعد أن كان لـ"الكردستاني" علو الكعب في العقود الماضية بالأرياف البعيدة. ولكن سياسة الحكومة الأخيرة القائمة على استئصال الحزب داخل البلاد، وملاحقته خارجياً مع دعم أي مظاهر شعبية للاعتراض عليه، بثّت نوعاً من الأمان في قلوب الأمهات والأهالي المناهضين لممارسات الكردستاني.


ناشط كردي: يتوجب حالياً إزالة المخاوف لدى الأكراد المرتبطة بالأفكار المسبقة التي تطلق عليهم

التاجر الكردي حسن غوجلو، والذي يعرّف عن نفسه بأنه ناشط في الوقت نفسه، يروي لـ"العربي الجديد"، عما شهدته المدينة من تغيّرات ويتحدث عن اختزالهم جميعاً بمجموعة معينة. ويقول: "يشعر الأكراد بالتهميش من قبل مجموعة من المتعصبين في البلاد، ممن يطلقون الأحكام العامة عليهم، معتبرين أن أي كردي هو بالضرورة موال لحزب العمال الكردستاني، ولكن الواقع يشير إلى أنّ هناك بصمات وشبهات في تأسيس هذا الحزب من أجل تغيير أيديولوجية الأكراد في تركيا. إذ إنه من المعروف تاريخياً تشبّث الأكراد بشكل كبير بالدولة العثمانية على أنها ممثلة للخلافة، نتيجة تجذر العلماء والمدارس الدينية لديهم، مما دفع أطرافاً داخلية وخارجية للعمل على تغيير فكر وولاءات الأكراد". ويتابع: "لذا، يتوجب حالياً إزالة المخاوف لدى الأكراد المرتبطة بالأفكار المسبقة التي تطلق عليهم، على الرغم من أن الحقوق المكتسبة لديهم من ناحية المواطنة متساوية مع بقية المواطنين".

مقابل ذلك، يقول مصدر في حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي لـ"العربي الجديد"، إن "ممارسات الحكومة المركزية القمعية والتعسفية مستمرة بحق الأكراد منذ تأسيس الجمهورية، وفي الوقت الحالي يظهر ذلك عبر تعيين قائمين على بلديات نجح فيها الأكراد، بعد أن تم عزل رؤساء البلديات التابعين للحزب. في حين تتواصل الاعتقالات لقيادات في الأخير، وعلى رأسهم زعيم الحزب المعتقل صلاح الدين دميرطاش، إضافة إلى مواطنين أكراد آخرين بتهمة الانتماء لحزب العمال الكردستاني". ويضيف المصدر: "وجد الحزب الحاكم في المحاولة الانقلابية (جرت عام 2016) فرصة لتصفية المعارضين". ويدافع المتحدث نفسه عن الاتهامات بالسعي إلى استغلال الأكراد لتغذية حزب "العمال الكردستاني" بالعناصر، بالقول إنّ "الأخيرين ينتسبون عن قناعة لحزب العمال الكردستاني الذي يحظى بتأييد كبير بين الأكراد".


مصدر في "الشعوب الديمقراطي": ممارسات الحكومة المركزية القمعية مستمرة بحق الأكراد

من جهته، يقول المحامي الكردي غولتكين فرات، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "حزب العدالة والتنمية حقق نجاحات كبرى في المنطقة بسبب خطابه ونهجه المختلف في بدايات حكمه، ولكن اختصار مسيرة السلام مع الأكراد في المنطقة بحزبي الشعوب الديمقراطي والعمال الكردستاني، أثار حفيظة الأكراد، خصوصاً أنّ هناك جمعيات ومنظمات مجتمع مدني وأحزابا أخرى موجودة. وهو ما استغله العمال الكردستاني لاستقطاب الشباب الكردي عبر إقناعهم بأنهم سيكونون عناصر أمن المنطقة مستقبلاً من خلال مسيرة السلام التي تجري مع الدولة. وهو ما يعتبر من أكبر الأخطاء التي قادت لفشل مسيرة السلام ولجهود العدالة والتنمية في إحقاق الاستقرار في المنطقة، وحالياً عادت الأمور للهدوء مع سياسة اجتثاث الكردستاني سلمياً وعسكرياً داخل البلاد وخارجها".

أما أحد سكان ديار بكر ويدعى باهوس يلماز، فيرى، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "السياسات الإقصائية مستمرة بحق الأكراد، وليس لديهم خيار سوى دعم الأحزاب السياسية الكردية ومواصلة الكفاح للحصول على الحقوق، إذ لا يزال هناك تمييز يصادف أبناء المدينة في مناطق غرب البلاد". ويضيف: "كما أنّ حزب الشعوب الديمقراطي يتعرض للتضييق عبر قوانين فرضها حزب العدالة والتنمية في التعديلات الدستورية الأخيرة، وفق النظام الرئاسي الذي فتح الطريق أمام تعيين قائم وعزل رؤساء البلديات. في حين أنّ كثيراً من المعتقلين السياسيين الأكراد لا توجد بحقهم اتهامات مثبتة أمام القضاء". ويعتبر أنّ "الممارسات الحكومية تُجمّل برداء المشاريع التنموية التي هي من واجبات الحكومة ولا تقنع الشعب، وكل ما تتحدث الحكومة عنه من نجاحات بالقضاء على العمال الكردستاني هو مجرد ادعاءات أمام الممارسات القمعية واستخدام القوة والترهيب بحق الأكراد".

المساهمون