حزب الله قوي أم ضعيف؟

حزب الله قوي أم ضعيف؟

14 مايو 2020

متطوع من حزب الله ضد كورونا بمركز اجتماعي (31/3/2020/Getty)

+ الخط -
أخيرا، صارَ حزب الله يبشّر بتسكين "أوهامنا" القائلة بقوته وجبروته. أمينه العام، حسن نصرالله، أعطى الإشارة بدعوته إلى "الهدوء في العلاقات الثنائية بين القوى السياسية". تلاه إعلامه الفني الذي أصدر أهزوجة شديدة الحماسة، يؤدّيها منْشد "المقاومة"، علي بركات، بموسيقى لا تقلّ حماسة، وتضع رئيس الحكومة في مصاف "الأقوياء". ومن بين كلمات هذه الأهزوجة: "... بوجودك الله مكمّلها/ وبيرجع أمل الشعب/ ريس رح تبقى وتظل/ عم بتقاوم ما بتكل/ يا ريس الله/ الله يزيدك". ولو لم يكن حسّان دياب هو المعني بهذه الأهزوجة، لتراءى لكَ من بعيد أنها واحدة من تغطيات "الإعلام الحربي" التابع للحزب والمسجِّل الأمين لتفوقه العسكري على إسرائيل، وعلى الإرهاب في سورية. 
في ماض قريب، في بداية الانتفاضة اللبنانية، فعل حزب الله الشيء نفسه مع رئيس وزراء آخر، سعد الحريري، بأن نظَّم تظاهرة في معقله، الضاحية الجنوبية، تأييداً له، دخل عليها "الروح والدم" .. ولكن يبدو، هذه المرة، أن الحالة تتطلب أكثر من تظاهرة. بعد النشيد، صار الوضع، "الدقيق" دائماً، يتطلب إنحناءةً ما، إعادة تموضع ما، يمْلي على الحزب الظهور بصفة "الضعيف"؛ في محاولةٍ لمحو "قوته" مؤقتاً، لعلّ موازين جديدة تنْقشع .. وكان استنفار اللهجات والخطابات، لتمشي على خطى الأمين العام للحزب، وترتدي ثوب النعاج... فمقالات وآراء فيسبوكية تتكلم عن "ضعف" الحزب. سيطرة حزب الله على البلاد؟ إنها "نغمة أصابها عطب كبير". هكذا كتب أحد قادته الإعلاميين في محاولة جديدة لتتْفيه أي رأيٍ مخالف له. القائد الإعلامي هذا لم يتمكّن من إخفاء صلافته، في "مسعاه" إلى إثبات ضعف حزب الله، فكان برهانه "الكافي" على ضعف فكرة "قوة" حزب الله، بأن جمهور القوى المتخاصمة معه "يراقب يومياً سعي قياداته الدائم إلى عقد اتفاقات مع حزب الله" شرّ البلية "الفكرية". مثل حافظ الأسد ونكتة انكبابه على تعذيب مواطن سوري حتى يعترف المسكين بأن "الأسد رئيس ديمقراطي".
الحزب قوي وضعيف. وأحياناً قوته من ضعفه، أو العكس. خذْ مثلاً علاقته بإيران. إنه بصراحة تامة، مربوط بهذه الدولة منها يستمد كل شيء. ولكنه أيضاً ضعيف بسبب هذه العلاقة لأن هذه 
الدولة، إيران، تخوض اشتباكاً مدروساً مع الولايات المتحدة قد يفضي إلى اتفاق بين الاثنتين، أو تسوية، أو استمرار للعراك. حزب الله مرهون بتأرجح العلاقة بين الدولتين، تسوية أو حرب أو ستاتيكو .. وماذا يفعل، عندما يضيّق بوتين الخناق على بشار الأسد والإيرانيين؟ يجمّد وثباته، يهدأ قليلاً، ويعتمر قبعة الإخفاء، حتى انقشاع الغيوم السوداء .. وفي هذه الأثناء، من يقول إن الحزب "قوي"، هو شخص غلطان، يستحق القهر. عكس مرحلة سابقة، عندما توالت "الانتصارات"، وحيث كان التخوين من نصيب من ينكرها.
حزب الله قوي وضعيف أيضا في مجال آخر، أو حالة أخرى: الفلسطينيون. تمكّن من مصادرة خطاب تحرير الأراضي المحتلة من كل القوى الأخرى المشارِكة في مقاومة إسرائيل بعد اجتياحها لبنان عام 1982، فأصبح يحتكر هذا الدور، ويختم باسمه التحرير عام 2000، ويقطف ثمراته السياسية والإعلامية على امتداد أراضينا؛ ثمرات الفلسطينيين تحديداً الذين أحبوه، كما أحبوا جمال عبد الناصر. ولكن بماذا تناصرَ مع الفلسطينيين في لبنان، أو سورية، أو الأردن أو الأراضي المحتلة، أو العالم؟ لا شيء كما هو بائن. خذْ مثلاً جديداً من بين أمثلةٍ لا تُحصى: الحكومة التي يديرها الحزب، ويبجّل برئيسها، منعت الفلسطينيين المقيمين في لبنان من العودة إليه، في الرحلات التي نظمتها لإجلاء "المغتربين"، بعد أزمة كورونا.
حزب الله قوي ضعيف. لولا النظام الطائفي اللبناني، لما وُجد أصلاً. وديمومة الطائفية والتحاصص الطائفي هي الأوكسجين الوحيد الذي يتنشقه محلياً. ولكن، بسبب هذا النظام الطائفي أيضاً، لم يتمكّن الحزب من التحوّل إلى ديكتاتورية شبيهة بالتي دافع عنها بدمائه ودماء السوريين، ديكتاتورية بشار الأسد، أو تلك التي تلْهمه وتوجّهه وتمْسك بقدره، أي إيران. وهذا واضحٌ في كلماته: عندما تشتدّ الخلافات بين الطوائف، حول حصص، لا غير، يصبح حزب الله من شتّامي الطائفية والمحاصصة. طُرفة أخرى في عهد حكومته العتيدة: خلافات مجلس الوزراء حول التعيين حُلّت بأن أُلغي بند التعيينات من جدول أعماله. وكان ذلك إيذانا بخروج رئيس الحكومة نفسه، المغوار، مكلّلاً بخطاب يستنكر فيه الطائفية والمحاصصة، فباركه الإعلام الممانع، وأصبح من الرجال "المنتَفضين".. ما هيأ للنشيد أعلاه.
قوي وضعيف. إنه قوي بقدرته على تشكيل حكومة، على تصعيد رجله إلى رئاسة الجمهورية. على سير الحلفاء والشركاء والخصوم بالوجهة "الإقليمية" التي يودّ؛ على تغطيته "دولياً"، بأن 
يمنحه أولئك الحلفاء والشركاء والخصوم صكّ "الشرعية الرسمية" والمؤسساتية، وارتداء لبوس الاحترامية والمصداقية، فبذلك، يغضّ العالم الطّرْف عن كونه حزبا إرهابيا، ويخترع الفصل بين "جناحه" العسكري المليشياوي والآخر المدني المتمثّل بوزرائه ونوابه ومخاتيره وكتاب عدوله ومحافظيه وعمداء جامعاته .. إلخ. لكن أقوى حلفائه، رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الذي يقود، يتغافل تماماً عن كونه مستقْويا به، بالحزب؛ فيخوض معارك أو صفقات جانبية ليست متطابقةً مع اللسان "المقاوِم" المُعتمَد. خذْ قضية العميل الإسرائيلي، عامر الفاخوري، مثلاً. والذي خيضت حملات وتظاهرات لممانعين وسجناء سابقين في أقبيته، من أجل محاكمته، وعدم إعادته إلى الولايات المتحدة التي يحمل جنسيتها. فيما خيضت تحرّكات صامتة أخرى من أجل إطلاقه، قادها هذا الحليف. فكان ما ابتغاه: الحزب لم يكتفِ بتمرير عودة الفاخوري إلى أحضان وطنه الأميركي؛ إنما أطلق، عبر أمينه العام، خطاب الجهل بكيفية هذه العودة وكواليسها؛ وخطاب تبرئة حليفه من تهمة تمرير العودة، مستعيداً ترنيمة "لو كنت أعلم" التي أطلقها إثر "انتصاراته" عام 2006. إنه ضعفٌ متمثلٌ بفراغ الرؤية عند الحزب، وخواء معناه، واحتمائه بأرخص الموازين للقوى.
أما القوة الصرفة للحزب التي لا يعتريها تحفظ أو عيب، فهي تكمن في نقطتين، كلتاهما محليتان: الأولى الطائفة. حزب الله محظوظ بطائفته. إذ تعتقد غالبيتها العظمى أنها هي المحظوظة به، نظراً إلى رفعه مقام الشيعة إلى منزلة الطوائف السياسية، المتشبّهة بطوائف سبق وحكمت، وكانت تدرّ على أبنائها هيبةً وامتيازات. الطوائف الأخرى التي أزاحها حزب الله عن عرشها، إما أنها لا عصبية لديها، أو أن هذه العصبية موزّعة، مشتتة. السنّة متفرّقون، محبطون لا يقفون على زعيم واحد؛ وعصبيتهم أصلاً قليلة. الموارنة منقسمون، وزعماؤهم يتنافسون على رئاسة الجمهورية؛ ولأجل ذلك، تتراوح مواقفهم بين "حليف" موثوق، وخصوم لا يزنون، محلياً، إلا بقوته. الدروز أقل منهم انقساما، غالبيتهم لا تتنكّر لزعيمهم، وليد جنبلاط. على الرغم من الحضور الإعلامي للذين ينازعونه على هذه الزعامة. وبقية الطوائف "الصغيرة" ذاهبةٌ فرْق عملة، بين هذه أو تلك من المذهبيات، أو القرى، أو البلدات؛ انظر كيف تبهدلت العصبية الأرثوذكسية عندما حاولت أن تنادي بوقف تهميش أبناء الطائفة في مراكز الدولة.
وخلال انتقاضة أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان المشتركون الشيعة في مناطقهم يتعرّضون 
للرصاص والتنكيل والحرق، وكانت كتائب حسن نصرالله وتوأمه نبيه بري تنزل على متظاهري بيروت بالشبيحة من دون أية محاسبة، أو احتجاج بوليسي، والموتوسيكلات الدائرة في قلب بيروت تصرخ "شيعة .. شيعة"؛ احتجاجا على وضع زعيمَيهما ضمن لائحة "كلّن يعني كلّن".
ولكن النقطة المحلية الأقوى لحزب الله هي دوره. قبل توسّع هذا الدور، مباشرة في سورية، وغير مباشرة في العراق واليمن. حزب صنع الحدث التاريخي اللبناني عندما خاض حرب 2006؛ وقبله بعام، بما اتهم به من تورّط في اغتيال رفيق الحريري، والتورّط باغتيالاتٍ لا تحصى .. وفواصل متفرقة جزئية، يؤرخ لها، مثل 7 أيار /مايو 2008. وكلها أعمال عسكرية لم يخضع الحزب لأية محاكمة عليها، نظرا لقوته. وبفضل طبيعة هذا الدور، حدّد الحزب توجهات مراحل لاحقة، أو أضاف إلى هذا الدور سمات جديدة، بما جعله صاحباً لأكبر الأدوار، أقواها وأوثقها، ومنحه مفتاح الموت أو الحياة في لبنان. ومن بعدها في سورية. أي أنه أصبح مخيفاً، نوعا خاصا من الخوف الذي لا تستطيع أن تمسك تماماً بمفاصله لكن إشاراته وفيرة.
هو الدويلة، اكتسح الدولة، خربها بالتواطؤ مع شركائه وخصومه، فأصبح يمسك المجد من طرفيه: هو صاحب دويلة ذات قرار مركزي ومالية واستجابات إقليمية، وقودها مليشيات مدرّبة ومؤمنة. وهو أيضا صاحب دولة، بعدما اخترقها وأضعفها، وصار مستحكماً بقراراتها وتوجهاتها. ونقطة القوة هذه لا تنفع معها دورات التدريب على النسيان.
إذ ينسى الحزب، يتناسى، أو يستخفّ بذاكرتنا القريبة، عندما يتوسّل صفات الضعف في نفسه. يريد لنا، مؤقتاً طبعاً، أن نلغي من هذه الذاكرة كيف كان، في خضم شعوره باستقرار ميزان القوى لصالحه، يطلق صرخاتٍ مدوّية من الانتصارات. كلنا حفظنا عن ظهر قلب، ورغماً عنا، إنتصاره "التاريخي الإستراتيجي الإلهي"، في يوليو/ تموز 2006، وما تلاه من "انتصارات على الإرهاب" في سورية، أُشبعَ بها الأثير. يريد الحزب أن ننسى لهجة التكبّر والاحتقار والتخوين لمن لم يصدق هذه "الانتصارات" .. والآن، انظر إليه: إنه يستعطفنا. من أين له القوة يا حرام...؟!
السابحون في بحر هذه المغْمغَة واقعون في خطأ يضرب العقل من الصميم. خذْ مثلا بسيطاً جداً، القياس المنطقي الذي اشتهر به أرسطو، قبل 334 عاماً من الميلاد. ولنتبع هذا القياس: تقول البدهية الأولى إن كل تنظيم يحمل السلاح بموازاة الدولة، ويقرّر عنها الحرب أو السلم، هو تهديد لهذه الدولة. البدهية الثانية أن حزب الله يحمل هذا السلاح، علناً، وباعتزاز. والنتيجة تكون أن حزب الله يهدّد كيان الدولة، يسحقه. هذا بالمنطق البسيط الذي لا يحتاج إلى شرح، ولا أمثلة معمقة. لكن حزب الله، لشدّة قوته، استطاع أن يفرض النتيجة العكسية تماماً: أنه بصفته حزبا مسلحا متفوقاً، لا يشكل، لم يشكّل، تهديداً للدولة، بل هو ملاذها الآمن.