في عيدها... المرأة الفلسطينية سيّدة نساء العالم

في عيدها... المرأة الفلسطينية سيّدة نساء العالم

07 مارس 2024

(نبيل عناني)

+ الخط -

يهلّ علينا عيد المرأة هذه السنة، والمرأة الفلسطينية صاحبته، دون غيرها من نساء العالم؛ المرأة الفلسطينية عموماً، المهاجرة، اللاجئة والباقية، والغزّية تحديدا تحتل الصدارة، وعلى رأسها أكاليل الشوك والغار. جلْجلة لا يعرف التاريخ المكتوب مثيلا لها.

في غزّة، تُنتهك إنسانيّتها. يتمرّد قاتلها على إحدى أهم الوصايا العشر، الواردة في التوراة، كتابه المقدس. ومن بينها: "لا تقتل". يخالف قاتلها هذه الوصية. يعاملها مع أبناء شعبها وأبنائها على أنها "فلسطينية حيوانة"، قرينة "الفلسطيني الحيوان" (يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي). والقتل في هذه الحالة مشروع. يجاريه عصيان قاتلها على وصايا توراتية أخرى من قبيل "لا تسرق"، أو "لا تطمع ببيت غيرك، أو بزوجته"...

تُنتهك عائلتها، تدمَّر عائلتها، التي جاهدت في بنائها. قاتلها يعمل بالجملة، الأولاد الأزواج الإخوة الأخوات الأحفاد والأجداد... تُنتهك أنوثتها، إذ تُحرم، من كل أشيائها الحميمة، الحافظة لصحتها لحشمتها، لجمالها، لرقتها ولحرمتها. تُنتهك ذاكرتها، ينسيها قاتلها ماضيها القريب، عندما كانت تفرم، تسلق، تقلي، تعصر، تنقع، تبهّر، تملّح ... أيام ذهبية راحت. نسيت ذلك كله، وهي الآن تجوع، لا تفكّر بغير اللقمة القادمة إلى من حولها قبل نفسها. والجوع عارٌ ينالُ من كرامتها وقلبها.

مع هذا الجوع، يُخترق روتينها اليومي الذي تنظم فيه حياتها وحياة من حولها. تعرف الآن كيف تتدبر وتطبخ وتعجن وتغسل تحت خيمة بلاستيكية مهزوزة، يتسرّب من جوانبها الشتاء والرمال والشمس... وكل مكونات الطبيعة التي يحميها البيت منها. لم يعُد لها بيت، ولا مطبخ ولا سرير ولا حمّام، ولا شيء من تلك الأشياء التي تنظّم الأيام، وتجعلها تمرّ بمنأى عن القضاء أو القدر. ولكن أكثر ما يوجعها، إن بقيت على قيد الحياة، هو أمومتها الجارية عليها أشكال من البغي. المرأة الأم يفتك بها الجيش الإسرائيلي كما لم يفعل جيشٌ آخر سبقه إلى القتل.

قليل من الأرقام: من أصل مليوني غزّي، وخلال ستة أشهر، قضت إسرائيل على 5350 طفلا، ونساء بما يوازيه تقريبا بالعدد. ثم 12300 طفل جريح، ورحلات البتر والإعاقات والآلام بلا مسكّنات، ولا علاج.

حتى في مجتمع محافظ مثل غزّة، المرأة الفلسطينية هناك حرّة. عذابها ثمن لحريتها، وحرّيتها لا تعرف المعاني المألوفة

أكثر من 17000 طفل منفصل عن أهله، مشرّد أو ضائع، أو ينازع الحياة... ولا نحسب، لا نستطيع أن نحسب عدد الأطفال الباقين تحت الأنقاض، وهم يقدّرون بالآلاف. وإذا كانوا مطمورين وحدهم أو مع إخوتهم أو جدّاتهم. ولا نحسب أيضا النساء الحوامل اللواتي إما أعطين النور لأطفال ميّتين، أو خدَّج برسم الموت. وحكايات كثيرة لا نعرفها الآن، تروي ما يتجاوز خيالنا، عن طعن الأمومة بخنجر مسموم. والجُلْجلة لا تتوقف عند مقتل الابن أو الابنة. تُقتل هي ويبقى أولادها "أحياء". فلا تنجو الأم المقتولة من عذاب روحها بعد موتها. تركت أيتاماً، في أرض محروقة. لن يسكن روحها السلام، وهم ضائعون وسط الركام، أو تحته، بلا سندٍ من أب، أقارب أو جيران... الجميع رحل.

ومساحة الجلجلة تتجاوز غزّة تتجاوز تلك الأشهر الستة المشهودة من العدوان على أهلها. بالقرب منها الآن، في الضفة الغربية، قتل الإسرائيليون أكثر من مائة طفل، بما يسميه الجيش الإسرائيلي "حوادث متفرّقة"... واعتقل الآلاف "إداريا". وقبل ذلك كله، المرأة الفلسطينية منذ النكبة الأولى، وتوزّعها في مخيمات اللاجئين في المدن العربية، في الشتات والمنافي القريبة والبعيدة، متفرّقة هنا وهناك...

جُلاجل صغيرة، غير بائنة دائما، تضجّ بقصص الآلام والصمود وإرادة الحياة. هذا كله من جيبها، من صمتها وصخبها، من إنسانيتها وصحتها وسعادتها واطمئنانها. كل حكاية من حكايتها قصة عن فلسطين، عن التشرد، عن قلق الانتقال إلى هنا أو هناك، عن حيواتٍ تدمّر في أول طريقها... وتستعيد المرأة فيها دور الجامع الضامن لاستمرار الحياة.

وغزّة في هذه الحالة ليست سوى تصعيدٍ دمويٍّ لفصول تشرّدها، والنجاح بإعادة لمّ شملها أو الإخفاق فيه. ليس فقط جوعها، بردُها، نومها، حبُّها الحياة، براءة فلذات كبدها. إنما أيضا تلك الطاقة الداخلية التي تنتشل بها أية امرأة عائلتها من مصيبة ابتليت بها. وهي لم تقترب من الرجل كما تقترب اليوم. لا تحتاج إلى نظريات التحرّر النسوي، إلى مفاهيم الحداثة، والارتقاء المهني أو التمييز المهني، المساواة، أو سياسة "النوع" (جندر)... أو إلى قضايا تغزو العالم اليوم من نوع "الميتو"، أو التحرّش الجنسي... وكلها تبدو من غزّة باهتة، ركيكة، جوفاء، كأنها من عالم آخر، تسودُه البلادة الذهنية والتأخر عن مواكبة العصر... هل من معنى لـ"التحرّر النسوي" في حالتها؟

تستحقّ المرأة الفلسطينية، في يوم المرأة العالمي، تسجيلاً لبراءة اختراع معنى كيف تتجاوز المرأة الموت بكل أشكاله البدائية

حتى في مجتمع محافظ مثل غزّة، المرأة الفلسطينية هناك حرّة. حرّية أصحاب الجلاجل. عذابها ثمن لحريتها، وحرّيتها لا تعرف المعاني المألوفة. غضب يمتزج بالصمود. إنها حرّية البقاء على قيد الحياة، التي تستنفر مخيلتها، وقوتها، لكي لا يقتل من حولها مرّتين. تجنّبهم بمثابرتها ما لا قدرة على الجبال من الخوض فيه.

ما تقدّمه المرأة الفلسطينية لنساء العالم يتجاوز كل الأيقونات التي نعرفها. لا القدّيسون، ولا أمهات الأنبياء، ولا زوجاتهم ولا أولادهم... لا تقارَن بركاتُهم بعطائها، بنموذجيّتها، بقدرتها على العيش بمحاذاة الموت، بقدرتها على مناداة الحياة أينما طلع نفسٌ واحد منها. إنها تتجاوزهم جميعا.

خُذْ مثلا من يوميّاتنا في هذه الحرب: كل اللواتي تحدّثتُ معهن عن الحرب على غزّة، وعن مشاكلهن الخاصة، أو منغصّات يومياتهن، كان تعليقهن واحدا: عندما أفكر بنساء غزّة، بما يكابدن... تبدو مشكلاتي سخيفة. المرأة الفلسطينية في غزّة هي مادة صمودنا، بوجه إسرائيل، وبوجه الحياة بأسرها. وهل هناك من برَكة أعظم من هذه؟ رغم الوجع، رغم حرْقة القلب على هذه التي تتجاوز بمقامها كل نساء العالم؟ وهي اليوم تستحقّ، في يوم المرأة العالمي، تسجيلا لبراءة اختراع معنى كيف تتجاوز المرأة الموت بكل أشكاله البدائية، كيف تُعانده ببحثها عن الطعام، بتأمين غالون مياه، أو كيس طحين، بطبخها على قطعة حديد، بامتناعها عن تناول قطعة الخبز والاحتفاظ بها لأطفالها، بنضوب حليبها، واستبداله بمياهٍ مشكوك أصلا بنظافتها، ببحثها بين الركام عن أطفالها، بحملها كفن رضيعها وهي جاثية حانية الرأس، بجرّها عربة حمارٍ وعلى ظهره الفرش والأواني المنزلية، وبحملها الراية البيضاء، بقتلها وهي حاملة هذه الراية البيضاء، بكوابيس أطفالها بموتها هي... بحزنها على أطفالها بعد موتها، بحزنها على حزنهم... بالأجر الذي تتوقّعه من خالقها.