أهلاً كورونا .. وداعاً لبنان

أهلاً كورونا .. وداعاً لبنان

05 مارس 2020
+ الخط -
التكيّف قبل كورونا. في الأشهر، بل في السنوات الأخيرة، كنتَ تتمنّى أشياء بسيطة: ألا يتفاقم الأمر أكثر من ذلك. ألا تنقطع الكهرباء نهائياً، أو الماء، أو البنزين، أو الدولار، أو الاتصالات أو المواصلات، أو الوظيفة.. أو أي شيء حيوي لاستمرار الحياة. "المهم ألا يتفاقم" أي من متطلبات الحياة على أرض هذه الجمهورية. ولكن ولا مرّة توقفت الأمور عن التدهور. وكلما فعلتْ، استقررت أنتَ عند نقطة التوقف هذه، وعدت إلى نفسك: "خير.. المهم ألا تتفاقم". ولكن قطار الاستشراء كان يواصل مشواره، وتكيّفك يستشرس، وتتحوّل الحياة شيئاً فشيئاً إلى ميدان حرب، سلاحه التكيّف. وذخيرة هذا السلاح هي ذاك الاعتزاز التاريخي باللبناني شبيه طائر الفيْنيق، القادر على النهوض بعد كل سقْطة من سقطات الزمن؛ حرباً عسكرية كانت أو تدميراً أو انقطاعاً "سلمياً" لواحدة من مستلزمات الحياة. 
وكان السؤال: كيف تستطيع، كل يوم، أن تحفّز من دواخلك كل هذه القدرة على مراقبة الضربات الموجهة ضد هذا العيش، أن ترتّب شؤون حياتك على أساسها، أن تعاملها وكأنها معطى "عادي"، بكثير من الإرادة.. من دون أن تتحوّل إلى كائنٍ غليظ الذهن، مغفّل، بليد، يستقبل شوائب عيشه، وكأنها مباراة في التكيّف الذكي. ومن أجل ذلك، وُجد الغضب. ذاك الغليان 
المسموم الذي يحول هذا العيش المتكيّف نفسه إلى حالة أقرب إلى البلاهة. والغضب من صغيرة أو كبيرة ينغّص هذا العيش، ويطيح بطاقتكَ على التكيّف. إذ لا يتواءم التكيّف مع الغضب؛ إنما يخرّبه، ويحول هدوء الفَينيق إلى غفلةٍ وفوضى وهرَج ومرَج. فكان لا بد لك أن تدوْزن هذا الغضب مع التكيّف، وإلا راح كل شيء، ضاعت كل الجهود. فالسؤال الآخر كان: كيف تخترع لنفسك مزاجاً يجمع بين اثنين: بين الغضب الذي لولاه لتحولتَ إلى إنسانٍ فاقدٍ للعصَبْ، وبين التكيّف الذي لولاه لأضعتَ عقلك، الضروري لكل تكيّف؛ أي كيف تضحك وتنكّت وتتابع حياتك وكأن كل هذه الاختلالات ليست سوى غيمة صيف، سوف تتجاوزها بفضل تلك المَلَكة اللبنانية، ذاك الكنز اللبناني الذي اسمه تكيّف. كيف تجدّد طاقتك عليه، من دون أن تنسى غضبك، ولكن أيضا، من دون أن تجعله يبْطل مفعول التكيّف الفَيْنيقي الذي فيك. ممنوع عليك اثنان: أن تفقد عقلك، وأن تروّضه أكثر من اللازم.
مع كورونا، يبدو الأمر مختلفاً. أنتَ أمام حالةٍ فريدة، لا تشبه سابقاتها. بالأصل، كانت البلاد موبوءة، تعشْش على طرقاتها وشواطئها، وبحرها وجبلها وهوائها.. أصناف من الميكروبات والفيروسات والنفايات. فوق ذلك، بعد السياسيين، كانت ثقتك بالأطباء ضعيفة. هم أيضا، في غالبيتهم العظمى فاسدون. والزيارة إليهم مثل قلّتها. أو قل، تضيف إلى لائحتك اسماً آخر، يحسن بكَ شطْبه من هاتفك وذاكرتك. الآن، الثقة معدومة، تجاه الأطباء ووزارة الصحة والحكومة بأسرها. عن هذه الأخيرة: مندوبو صندوق النقد الدولي الذين استعانت هذه الحكومة بهم لاستشارتهم بشأن أزمة ديونها خرجوا من اللقاء بأعضائها مصعوقين، لكثرة كذبهم ولقلّة كفاءتهم؛ هم الذين عُيّنوا على أساس انهم "خبراء، تكنوقراط"...
الحزب المتحكّم بهذه الحكومة، حزب الله، لم يستطع، في البداية، تصديق الكورونا. تصرّف مثل رجالات مرجعيته الإيرانية. قال إنها "مؤامرة". وشجّع جمهوره الوفي على ترداد الشعارات المضحكة - المحزنة من نوع "أهلا وسهلاً بكورنا إيران"؛ وأشياء من هذا القبيل.. وكان ينقص، لإتمام "الإجراءات" الكاذبة، أن يظهر وزير الصحة الحزْبلهي يومياً على التلفزيون، لتغطية "زياراته" إلى هذا المركز الصحي أو ذلك؛ خاطباً، وناصحاً المواطنين القادمين من إيران، والذين يشعرون بعوارض كورونا، أن يلزموا بيوتهم. ولكن الوزير يغيب عن الرحلات الجوية المستمرة مع إيران، وقد اجتاز مسافروها الحدود اللبنانية، من دون أي فحص، ولا مراقبة، ولا إجراء.. ثم توزّعوا على القرى والبلدات. وطبعاً، مع مستشفى واحد في الجمهورية كلها، لا يستوعب أكثر من أربعة مصابين في حجره الصحي، كان من الطبيعي أن يُقضى تماماً على الثقة بالوزير، بالوزارة، وبغالبية الأطباء. والشائعات وحدها مصدر موثوق به.
تعود وتفكّر بأنك جزء من هذا العالم. وأن مصيبة الكورونا ليست حكراً عليك. وأن عليك، للمرة 
المليون، أن تتكيّف، أن تضبط غضبك. أن تأخذ الاحتياطات المطلوبة بهدوء من يصطاد السمك، بصبره ومرحه واستمتاعه بموجات البحر. ولكن الحزب المتحكّم يعود فيفاجئك بعمق إيمانه بلبنان "الساحة"، بأصالة استهتاره بالحياة. هو الممْسك بكل الحدود البرية مع سورية مَسْكاً أمنياً ناجحاً، يمرّر عبرها قوافل من الحجاج القادمين من إيران، حيث كانوا يزورون العتَبات المقدسة، من دون فحص ولا تدقيق، أيضاً، فهو الضابط الأوحد للحدود البرية أيضاً، ومثلها الجوية والبحرية، فهذه الحدود غالية على الحزب المتحكّم. بسببها، قد ترفض حكومته خطة الإنقاذ الاقتصادي، إذ تفترض هذه الخطة أن للهدر المالي منبعَين أساسيَين: الكهرباء أولاً، ثم الحدود البرية والجوية والبحرية نفسها. الأولى، الكهرباء، لا مانع، حتى لو تمّت التضحية بمصالح الحليف العوني. أما الثانية، الحدود، فكيف يغلقها الحزب المتحكّم؟ كيف يتاجر ويهرّب ويمرّر، ويعبر للمقاتلة إلى جانب بشار الأسد؟ كيف يتغذّى؟ كيف يكون مستقلا عن مؤسسات الدولة؟ كيف يكون دولاره متوفّراً في جيبه؟ إلى آخره من تساؤلات.
محاربة الكورونا تفترض بلداً محمياً بحدوده، كما تفعل الدول التي تستحق اسمها. وفي لبنان، لا معالجة للكورونا، لأن الحزب المتحكّم تُضرب استراتيجيته ومصالحه، في حال ضُبطت هذه الحدود أو تمّ إغلاقها. أين الفَينيق ساعتها؟ أين الغضب؟ أين التكيّف؟ وكل هذه الخصال؟ كل هذا الجهد للسيطرة على المزاج..؟ كأن شيئاً لم يكن. إنما ذهول، ومعه حتمية أو قدرية. وتحاول أن تبتسم، أن تنكّت، أن تحب الشروق.. أن تعطي معنى لكونك إنسانا، عائشا على هذه الأرض. وإلا فكيف يمكنك أن تستمر؟
ولكن على أية أرضٍ تعاند هذه المصائب؟ أين تتكيّف، كما اعتدّتَ؟ في دولة اللامكان؟ في دولة شرعت أبوابها للعدم؟ فأعدمت نفسها؟