مدخل للحوار الفرنسي اليساري - العربي الإسلامي

مدخل للحوار الفرنسي اليساري - العربي الإسلامي

11 فبراير 2020
+ الخط -
تظلّ باريس ذات رسالة خاصة في الشعور الوجداني للمثقف العربي. هناك تجاذب مزدوج بين حصيلة الكفاح الحقوقي لإرث الثورة الفرنسية وسجلّها الاستعماري وصلف استشراقها ضد الإنسان العربي، ولكن تبقى لها جاذبية التنوير ومعالم السياحة التي ارتبطت به، ومعاهد القانون، خصوصا فكرة كرامة الإنسان، وحقه في الحياة الحرة وحقه في التعبير. غير أن الإشارة هنا إلى إشكالية التطفيف التي يستشعرها الإنسان العربي، في ظل صعود الليبرالية الجديدة اليوم، ومصالح فرنسا التي يقودها الرئيس، إيمانويل ماكرون، وهل نزعة ماكرون ومشاريعه للاستثمار الاقتصادي في صراعات العرب، خصوصا في ليبيا، جديدان على باريس، أم أن للإرث الاشتراكي الفرنسي أيضاً حصيلة دسمة من دماء الضحايا أيضاً. وقد كانت هذه الفكرة ضمن حواراتي في زيارة باريس أخيراً، فتبادل الفساد بين الأنظمة الأفريقية (والعربية منها) والحكومات الفرنسية قديم، يصل إلى التأثير في دعم المرشحين الرئاسيين، ورد الدين أو المصلحة من هذه الزعامة الفرنسية، لدعم ذلك المستبد العربي أو الأفريقي، في حين كانت السلطة الرابعة الفرنسية تخوض معركةً مع هذا الفساد الدبلوماسي الخطير، للسياسة الدولية لباريس، لكن من دون أن تتمكّن من توقيف عجلة التوحش المادي.
بأي عين ننظر إلى باريس؟ سؤال مهم، وهي عينٌ ممتدةٌ إلى مشروع الاستشراق الفرنسي، خصوصاً بنيته التي مهدت لتمكّن الاحتلال الفرنسي، وكل صور التوحش، في الجزائر. وليس المقصد هنا أن نكون مرتهنين في العلاقة الإنسانية مع الضمير الفرنسي، في عهد الاحتلال، 
فحتى الحالة الجزائرية الثقافية العلمانية والإسلامية للشعب الجزائري، على الرغم من اتفاقها على إدانة وحشية الاحتلال، إلّا أن التداخل الثقافي والاجتماعي مع فرنسا واسع ومؤثر في مسيرة التحرير الفكري.
ومن أهم الشخصيات التي أحرص على لقائها في باريس هو الصديق، ستيفان لاكروا، الباحث الفرنسي والأستاذ الجامعي الذي اهتم بفهم الحالة الإسلامية في الوطن العربي، وظل يحمل مشاعر دافئة ومتابعة أخبار أصدقائه المعتقلين في الوطن العربي منذ الربيع العربي، وقد لا يعد ستيفان في صدارة مفكّري فرنسا اليوم، ونحن نتحدّث تحديداً عن المجموعة المهتمة بالحوار الفكري العربي - الفرنسي، لكنه ورفاقه في الجامعة يمثلون تياراً مهماً يتمسّك بعلاقة انفتاح. ولهذا الشاب نَفَسٌ أخلاقي في احترام العرب، قد لا تجده إلا نادراً في رحلة البحث الفكري، أو الجسور المشتركة. ولكن لماذا علينا أن نتمسّك بهذه الجسور، على الرغم من قلة التجاوب، فهل هي روح التبعية للمتغلب، وهي نظريةٌ مشتركةٌ بين ابن خلدون والفلاسفة الغربيين، أم أنه موسم كرنفالي نسعى إلى إحيائه لمجرد القول إننا أمة حضارية، وهل الأمة الحضارية مرتهنةٌ بالسعي إلى الحوار من طرف واحد؟
يجب ألا نُغفل ابتداءً حجم المعاناة التي يعيشها الباحث الفرنسي المنصف، في ظل تبادل المصالح بين المؤسسات الإعلامية في فرنسا والتيارات اليمينية أو اليسارية، الموغلة في تهميش واحتقار العرب والقيم الإسلامية ورفض حضورهم، فضلاً عن رفض الاعتراف بأي ندّية 
حضارية للإسلام، وأن نقدّر أيضاً طبائع كل شعب وثقافته، بما فيها الضمير الفردي لأولئك الباحثين. وإن كنّا اليوم نعرف أن التوظيف الرأسمالي الذي تضخّه الحكومات العربية يساهم في تعقيد الشخصيات وإفسادها وفرص الحوار، وهو تمويلٌ لا توجد لديه مشكلة، مع حملات الإعلام الفرنسي غير المنصفة على المسلمين أو صورة العرب وثقافتهم، بل قد يكون ممولاً لها.
على الرغم من ذلك، علينا أن نتمسّك بمساحة الحوار وقيمه، فماذا لدى الأمم من مساحة بعد رفض الحوار إلا الصراع والحروب، فمظلات الحوار ورسائلها تساهم في تخفيف الصلف الاجتماعي بين الشرق والغرب، وتقلل مساحة الخطورة في نشأة اليمين القومي أو الديني المتطرّف وصعوده بين الغرب أو العرب. وهنا نطرح مبرّر هذا الحوار، وماذا نقصد بأنه عربيٌ إسلامي فرنسي يساري، إن هناك تهميشا واسعا لا يزال يتغوّل ضد كينونة العرب وعلاقتهم بالرسالة الإسلامية. ومع عودة الشعوبية في إيران والعثمانية الجديدة، ازدادت موجة تحقير العرب، وتهميش مكانتهم، والاحتجاج عليها بالاستبداد العربي الحديث. والحقيقة أنه لا يوجد فارق معرفي على الإطلاق يحمله العرب غير الفكرة الإسلامية.
وهنا نحن نتحدّث عن "الإسلام المعرفي"، ويقصد به مساحة ما تحتويه القيم والآداب وأدوات 
العمران المدني والأخلاقي في مقاصد الرسالة، وخزانات التراث الذي احتوى الطوائف ومساهماتهم، من دون شريطة الدخول في الدين الإسلامي.
هناك اليوم حركة إقرار، بدأت تتسع عند عدة شخصيات غربية فلسفية، وهي أن فكرة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وفرض تصور لائكي حاد يُقصي الوجدان الروحي، قد نقضتها التجربة الإنسانية، وهي ذات علاقة بمساحة الارتداد ذاتها، في داخل الدولة المدنية الغربية، وعودة سحق الطبقة الاجتماعية الكادحة. هنا يبرز لنا مفصلٌ مهم للبحث المشترك عن الحل المعرفي لمصالح الإنسانية، وجسور الحوار، الذي يعتمد أساساً فلسفياً كلياً، وهي أن الفلسفة تدور في مصالح الإنسان الوجودية وحقوقه، ومتى تحوّلت إلى أزمة أخلاقية، واستمر توظيفها السياسي سترتد على ذلك الإنسان. هنا سنجد مادة حيوية بين العرب، أيا كان دينهم أو مذهبهم، ورواق الحوار الفرنسي الذي تأخر عن نقاش هذا المعنى، لتكون مادة الإسلام المعرفي مبعثاً لروح جديدة، ولكون اليسار الأقرب لهذه المساحة كان من الطبيعي أن يكون الشريك الافتراضي. ومن محاسن الزيارة أنني علمت أن هناك فرعاً كبيراً للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، رئيسه هو سلام الكواكبي، حفيد عبد الرحمن الكواكبي، تواصلت معه، ولكن لم يسع الوقت لتلبية دعوته الكريمة، وهي مصادفةٌ جميلة تذكّر برسالة الإمام بين الحرية والتنوير الإسلامي والكرامة العربية، ولعل دراسة فكره تكون مدخلاً لندوة نوعية في باريس، لتبقى جسور التواصل صامدة أمام رأسمالية الصراع.