الراهن السياسي التونسي وسؤال النخبة

الراهن السياسي التونسي وسؤال النخبة

25 اغسطس 2019
+ الخط -
أعاد سجال المشهد الانتخابي الدائر في الساحة التونسية طرح سؤال دور النخب عامة، والنخبة الثقافية التونسية تحديداً، في الحراك الذي يعيشه التونسيون من أجل الوصول إلى استحقاقاتهم الانتخابية الرئاسية المبكرة (15 سبتمبر/ أيلول 2019) والتشريعية (6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) إلى بر الأمان. ويستند هؤلاء إلى مخيالهم الجمعي، في ما فعله فلاسفة التنوير ومثقفوه مثلاً في الإعداد للثورة الحداثية في أوروبا، أو ما بادر إليه مفكرو القرن العشرين في التصدّي لآلة الحرب، والدفاع عن القيم الإنسانية الخالدة، فأي دور للنخب التونسية اليوم في مسار التحول الديمقراطي؟ هل ما زالت قادرة فعلاً على فهم ما هو واقع، وهل في وسعها أن تسهم ولو نظرياً في التحولات الحاصلة في البلاد؟
حسب المصطلح اللغوي، النخبة إطلاقاً هي الصفوة في أي مجال، وهي في الثقافة صفوة المتعلمين التي تعدّت التحصيل المعرفي إلى حقول الإبداع الفكري الذي يؤثر في التحولات الاجتماعية، بمختلف أبعادها. وتاريخياً، تجاوز دور المثقف واهتمامه (فرنسا نموذجاً) نقد الميتافيزيقا القديمة التي كانت منجزاً فلسفياً بحتاً، ليتوجه إلى المشاركة الاجتماعية والسياسية، تفاعلاً معها، وعملاً على التأثير فيها، معبراً عن رأيه، وطارحاً وجهة نظره في قضايا مجتمعه، ما يجعل التداخل بين ما هو "ثقافي" وما هو "سياسي" أمراً طبيعياً. ويوصل هذا المسار إلى مفهوم المثقف الملتزم بالقضايا التي يراها عادلة ونبيلة، وهو ملزم بالدفاع عنها. وفي هذا السياق، نستحضر مواقف مثقفين من القرن العشرين، كتّاباً ومفكرين، على غرار سارتر وأراغون ورايمون أرون وميشال فوكو وسيمون دي بوفوار، وغيرهم من الذين اشتهروا بمواقفهم السياسية، مثل تنديدهم بحرب الجزائر والاحتلال الصهيوني للأراضي العربية الفلسطينية.
لقد اشتهر بعض هؤلاء (سارتر، فوكو..) بتجاوز إبداء الرأي للمشاركة والانصهار التام في 
الحراك السياسي، وتمظهراته في الشارع والجامعة والفضاء العام عموماً، وتوزيع الصحف مع الطلبة.. إلخ. وبرز في تلك الفترة مفهوم "المثقف السلطة" الذي يؤثر في الأحداث، ويحول مسارات الواقع. فقد تخلّى روجيه غارودي مثلاً عن الشيوعية، مغادراً اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي، من أجل الحفاظ على قيمة أهم، هي سلطة المثقف. أما سارتر فقد كان "الزعيم الملهم" والأب الروحي لاحتجاجات مايو/ أيار 1968، وما انجر عنها من تحولات اجتماعية وسياسية في فرنسا، والفضاء الفرنكفوني، وضمنه البلاد التونسية. وقد شكلت حركة الطليعة الأدبية، ورموزها في سبعينيات القرن الماضي، وكذلك حركة "آفاق" الذين عاصرناهم، أمثال الطاهر الهمامي وعز الدين المدني وسمير العيادي والحبيب الزناد وغيرهم، رجع الصدى لأحداث 1968 في فرنسا.
في تنزيل لسؤال النخبة والمثقف على منوال ما سلف في السياق الراهن للمشهد السياسي التونسي، يكاد المختصون في علم الاجتماع الثقافي والسياسي، على غرار الطاهر لبيب وحسين المشيري ومحمد دمق وغيرهم، يجمعون على أن استعمال مصطلح النخبة أو المثقف فيه تسامح كثير، فليس في تونس مفكرون مبدعون أو رواد فكر.. نجد الأكاديميين التونسيين الذين نجحوا في مختلف اختصاصات العلوم القانونية، والإنسانيات والعلوم الشرعية، نجاحاً باهراً في العلم، وجدّدوا في مناهجه. يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أبعد من هذا، مجمعين على أن تونس أنجبت منذ الدولة الحفصية (1207 - 1574)، وبعدها الدولة الحسينية، (1705-1957) علماء أفذاذاً في ميدان اختصاصهم في الأدب والعلوم الدينية.. ولكننا لا نرى إلا ابن خلدون الذي بلغ درجة المثقف، فهو المثقف التونسي الوحيد في العهد الحفصي الذي يمكن إطلاق هذه الصفة عليه "المثقف الذي انغمس في السياسة، وباشرها، وغامر فيها، ولكنه أفلح في مجال الفكر الاجتماعي فقط"، وخلّد مؤسساً لعلم العمران البشري الذي أصبح يسمى علم الاجتماع بكتابه "ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، المعروف اختصاراً بالمقدمة.
في قراءة معاصرة أخرى، يعتبر أصحابها أن تونس أنجبت خلال القرن العشرين، وخصوصاً خلال المعركة التحريرية من الاستعمار الفرنسي، مثقفين أفذاذاً ناضلوا بالكلمة والفكرة ضد المستعمر، ونذروا عطاءهم لتونس، أمثال الطاهر الحداد وأبو القاسم الشابي ومجموعة الاتحاد العام التونسي للشغل، أمثال أحمد بن صالح ومحمود المسعدي ومصطفى الفيلالي والشاذلي القليبي وغيرهم.. ممن انخرطوا في الفعل الثقافي، وانتهوا إلى العمل السياسي، وتواصل إشعاعهم إلى دولة الاستقلال، فكانوا من بُناتها مع آخرين، أمثال محمد مزالي والحبيب بولعراس وغيرهما. ومع الرئيس الحبيب بورقيبة، أُسست دولة حديثة، تقودها نخبة سياسية سيطرت على باقي النخب، ما جعل المؤرخين يصنفون نظام الدولة البورقيبية بـ "الاستبداد المستنير". لقد غيبت هذه الدولة الصوت المعارض، ودفعت النخبة الثقافية التونسية إلى السير في ركابها والتهليل بمنجزاتها. وقد ورث نظام بن علي عن بورقيبة هذه الصفة، مضخماً مركزية الدولة إلى حدود الدكتاتورية التي قامت على الفساد، وكبح كل تعبير حرّ، ما أدى إلى انفجار 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
مع قيام الثورة، أُسست هيئة تشريعية تسمّى "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح
 السياسي والانتقال الديمقراطي" في 15 مارس/ آذار 2011، وهي واحدة من ثلاث لجان للإصلاح، عيّنتها حكومة الباجي قايد السبسي المؤقتة. وقد عين أحد كبار الأكاديميين رئيساً لها، عياض بن عاشور، الذي استجلب معه أكاديميين وحقوقيين وذوي اختصاص في العلوم القانونية والاقتصادية وغيرها، ما أدى مرة أخرى إلى تغييب النخبة المثقفة أمام اكتساح الحقوقيين والتكنوقراط. واستمر هذا الحال من خلال المجلس الوطني التأسيسي (2011 - 2014)، وكذلك عبر مجلس نواب الشعب عام 2014.
وبالمحصّلة، وقع الاقتصار في المراحل الثلاث التي تميزت بها سنوات ما بعد الثورة على النخبة الجامعية في معناها الضيق، تغييباً للرموز الثقافية ذات الإشعاع في الفضاء التونسي العام، التي كان يمكن أن تكون الجناح الثاني الذي تحلّق به الثورة التونسية. ولكن المؤلم أن المثقفين قبلوا هذا الوضع، مكتفين بالمراقبة والجلوس على الربوة. ما جعل بعضهم يتساءل عما إذا كان دور النخبة الثقافية قد انتهى. وقد ساعدت عوامل أخرى على عزل النخبة الثقافية وتهميشها، منها الانتشار الواسع للشبكات بمختلف أنواعها، وصعود جيل جديد، قطع مع موروثها. هذا الجيل الذي نشأ عبر الشبكات الجديدة، وأصبح يفكر بموجبها جماعياً وينتج جماعياً، يفعل ويرد الفعل جماعياً، بل إن أحاسيسه ومواقفه أصبحت تعرض من دون قيود في هذه المواقع الاجتماعية. ويذهب محللون إلى أن النخب تتجه نحو الانقراض، بعد أن سلب صعود مجتمع الشبكات وتطور التواصل الاجتماعي وآلياته وطفرة المعلومات والتنامي المطرد لثقافة التفاعل والتعاون النخب أدوارها، لتكتفي بإنتاج المعرفة في أضيق الحدود. لقد شرّع الذكاء الجماعي استبدال العقل المفكر. ويربط هؤلاء نهاية النخب بنهاية الزعيم، وأفول الأيديولوجيات، وتغير المناهج التعليمية، وتراجع رمزية الأب، لتصبح الجماهير ناطقة باسمها، ومعبّرة عن نفسها.
وفي النهاية، تجسّد الحالة التونسية تماماً هذا التحول، وتكشف الصراع الدائر بين حطام النخب الثقافية المتهالكة والعاجزة والمنقلبة على المسار، في ركضها المحموم نحو السلطة، وهذا الانفجار الرقمي والشبكي الذي جعل من كل فرد نخبة.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي