الأم تيريزا والانتخابات في تونس

الأم تيريزا والانتخابات في تونس

16 يونيو 2019
+ الخط -
تدلّ كل النتائج التي انتهت إليها مؤسسات سبر الآراء المختلفة في تونس، سواء التي تشرف عليها مؤسسات اقتصادية ربحية أو مؤسسات مدنية بحثية، على أن بعض رؤساء الجمعيات الخيرية يتصدّرون ترتيب نيات التصويت في الانتخابات الرئاسية التي هي طموحهم الأكبر. تحولت هذه الشخصيات التي شعّت أسماؤها من خلال النشاط الخير، في أثناء الأمطار مؤخراً، من السباق الانتخابي إلى شخصيات سياسية متفوقة على تلك الزعامات التي ناضلت ضد نظام بن علي، أو ساهمت من مواقع متقدّمة في العملية الانتقالية. كيف نفهم هذه المعطيات غير المتوقعة؟ وأين هو الخلل؟
ما زالت تلك الأسئلة وغيرها تحيّر الطبقة السياسية في تونس، وجزءاً من النخب السياسية، فضلاً عما أحدثته من انقساماتٍ في مواقف الرأي العام، بل لم يسلم منها حتى مجلس النواب، خلال انعقاد جلسة عامة لتمرير تعديلاتٍ على القانون الانتخابي، إذ لم تحظ بالأغلبية المطلوبة، فقد حازت التنقيحات تلك 103 أصوات، في حين يُفترض بشأن القوانين الأساسية أن يكون العدد 109 من أصل 217 نائباً حتى تمرّ التعديلات.
كانت إجابة الائتلاف الحاكم على تلك التوقعات، المسارعة إلى تعديل القانون الانتخابي، حتى يتم منع هذا الانتقال المفاجئ من العمل الجمعياتي إلى العمل السياسي، وخصوصاً في ظل تنامي أشكال العمل الخيري، وتوظيفه لمسائل سياسية انتخابية. أعدت الحكومة بشكل سريع، وهي صاحبة المبادرة التشريعية هذه، مشروعاً يمنع مسيري الجمعيات الترشح للرئاسة، ووضعتهم أمام ضرورة الاستقالة من العمل الجمعياتي سنة قبل الانتخابات، حتى يقبل ترشّحهم. كما حمل المشروع أيضاً منع ترشّح كل من لا يحترم الدستور، وما ورد فيه من مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة، كما يشمل المنع كل من يمجد الدكتاتورية، في إشارة إلى رئيسة الحزب الحر الدستوري، عبير موسى، التي كانت إحدى القيادات النسائية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي، الحاكم في عهد بن علي... تخوض حملتها الانتخابية المسبقة، ليس لها إلا مشروع واحد، هو إقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي، ومحاكمتهم، فضلاً عن التنكر 
لكثير من حقوق الإنسان الأساسية الواردة في الدستور التونسي.
التقت أحزاب سياسية، وتحديداً الحاكمة منها، على ضرورة تعديل القانون الانتخابي، لقطع الطريق أمام ما تراه تحايلاً على الناخب الذي تمت استمالته من خلال العمل الخيري، والتسلل إلى الحقل السياسي من منافذ مغشوشة، ظاهرها التطوع والتبرع والنشاط الخيري، وحقيقتها كسب صوت الناخب، ولو تحايلاً.
على خلاف هذا الموقف، يدعو بعضهم إلى تجنب مثل هذه التنقيحات، التزاماً بالدستور، وبالقانون الانتخابي الحالي الذي لا يمنع على رؤساء الجمعيات، مهما كان نوعها وأهدافها، الترشّح في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. ويذهب هؤلاء إلى القول إن من غير الأخلاقي تغيير قواعد اللعبة، ونحن على مسافة أشهر قليلة من تنظيمها، ويدعون في أقصى الحالات، إلى تأجيل التنقيحات إلى الدورة البرلمانية المقبلة.
يبدو أن هذه الانقسامات انعكست على مجلس نواب الشعب الذي بدا منقسماً بن كتلتين كبيرتين: كتلة التحالف الحاكم تقريباً، أي حزبي النهضة وتحيا تونس من جهة، وكتلة أخرى ضمت مزيجاً غير متجانسٍ من النواب الذين ينتمون إلى كتلٍ ذات خلفية سياسية وأيديولوجية متنوعة، على غرار شقوق حزب نداء تونس (نداء الحمامات، والمنستير، ومشروع تونس)... يضاف إليها الجبهة السياسية (يسار اليسار)، وكتل أخرى لا ترى موجباً لهذا "العزل" السياسي المقصود حسب رأيها. وترى أن الديمقراطية تدافع عن نفسها بنفسها من خلال التصويت، وليس بمنع الخصوم بقوة القانون مهما كانت المؤاخذات عليهم، فهذا العزل لو حصل بمقتضى القانون، لاعتبر حسب رأيها تحايلاً على الدستور، وخصوصاً في غياب محكمة دستورية ظلت معطلة، ما يجعل هذه التعديلات تحرم، بشكل مسبق، الناخب من اختيار حاكميه.
تشكل حالة جمعية خيرية أنشأها أحد رجال الأعمال، إثر وفاة ابنه دهساً، حالة نموذجية. كان الناس قد اعتقدوا أنه نذر نفسه للعمل الخيري، وخصوصاً أن كل أنشطته الخيرية كانت تحظى بتغطية إعلامية لقناته التلفزية الخاصة، فكرّست مساحاتٍ مهمةً له ولأنشطته الخيرية. لم يكن الشارع التونسي يهتم لهذا الأمر بل تغاضى عنه، بل أكبره فيه هذا، وخصوصاً أن الرجل مرّ بمحنة قاسية، وقد يكون وجد في العمل الخيري ما يخفف عنه مصابه. ولكن الحقيقة كانت خلاف ذلك، فقد استطاع أن يخيط البلاد "داراً داراً زنقة زنقة فرداً فرداً"، موزّعاً مختلف المساعدات، وفق منهج "تقني" قائم على خبرة كثيرة في الجغرافيا الانتخابية، وتقنيات التواصل والدعاية الوديعة. حتى إذا تغلغل في تلك الأعماق، أعلن نياته السياسية، وحرصه على الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. وكان قبل ذلك قد حوّل قناته أكثر من سنتين إلى "صوت المستضعفين" و"الزاوولة" (الفقراء والمحتاجين في اللهجة المحلية)، فغدا في طور أول المتكلم باسمهم. وفي طورٍ ثان، أصبح ممثلهم الشعبي الأكثر "إخلاصاً". نزع الرجل انتماءه البورجوازي، وخان طبقته الأصلية ليغدو "فقيراً مستضعفاً"، وذلك ضمن إنتاج خطاب شعبوي، لا يخلو من حركات مسرحية في غاية الدقة: احتضان الفقراء، البكاء لآلامهم.. إلخ. وقد أعلن الرجل، في تصريحات إعلامية أخيراً، أنه الأم تيريزا ــ تونس.
كان ذلك المسار نفسه الذي اتبعته إحدى الجمعيات الأخرى، اختارت لنفسها الاسم والشعار الذي اشتغلت عليه سنوات طويلة، راهنت فيه على الشباب، والنهوض بالتراث المحلي للجهات، وتثمين كفاءات الشباب ومهاراتهم المختلفة، الفنية والعلمية، وخصوصاً لدى الفئات الاجتماعية المهمشة. قامت الجمعية بجهد إعلامي خيالي، يبرهن على إمكانات مالية ضخمة، جندت خلال سنوات عديدة، حتى اقتصت اللحظة المناسبة، لتعلن أيضاً رئيسة الجمعية رغبتها في الترشّح 
للرئاسيات المقبلة، والمرأة هي من أصول تونسية، لكنها مقيمة في الخارج، ومتزوجة برجل أعمال فرنسي.
بقطع النظر عن مآلات التنقيحات المزمع إدخالها على القانون الانتخابي، التي سيعود إليها البرلمان، فإن الديمقراطية في تونس مدعوةٌ إلى حماية نفسها. وليس من الهيّن أن يُساق الانتقال الديمقراطي برمّته إلى أشخاصٍ تحايلوا على الديمقراطية ذاتها. للعمل السياسي أبوابٌ على الجميع أن يطرقها، ويدخل منها إلى الحياة السياسية. أما الدخول إليه من منافذ العمل الخيري، فذلك غش للديمقراطية وتحايل عليها. لذلك حق للديمقراطية أن تحصّن نفسها بقوة القانون العادل، وهذا لا يعني تغيير قواعد اللعبة، في الوقت بدل الضائع، حسب ما يدّعي، بل هي تذكير بأن للديمقراطية قواعد لعبة، على الجميع الانضباط لها.
ماتت الأم تيريزا، الحائزة جائزة نوبل للسلام، بين أحضان المعدمين في مدينة كلكتا الهندية، زاهدة في السياسة. أما مقاولو العمل الخيري في تونس، فهم يستثمرون في عواطف الفقراء، ويتحايلون على الديمقراطية، وأعينهم على الجاه والسلطة.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.