تونس.. العمل الخيري وتوظيفاته

تونس.. العمل الخيري وتوظيفاته

02 يونيو 2019
+ الخط -
أثارت مسألة النشاط الخيري ومخاطر توظيفاته السياسية أخيراً في تونس جدلاً واسعاً. وقد سبق طرحها في مناسبات عديدة، تعلقت تحديداً بتقديم بعض الأحزاب مساعدات اجتماعية في مناسبات دينية أو وطنية أو اجتماعية، على غرار العودة المدرسية. وكلما حلت الجوائح الطبيعية، مثل الفيضانات أو هبوب العواصف الثلجية، في مناطق الشمال والوسط خصوصاً، إلخ. وعبر التونسيون، في كل مرة، عن استيائهم من توظيف هذه الأحزاب أو المنظمات غير الحكومية هذا العمل الإنساني النبيل في دعاية سياسية، أو توظيفات أخرى، تنال من مبادئ الكرامة الإنسانية، غير أن ذلك لم يضع حداً لهذه التجاوزات، غير أن السياق هذه المرة مختلف تماماً، خصوصاً والبلاد على مرمى حجر من الانتخابات التشريعية والرئاسية.
ربما احتدّ الجدل على إثر أمرين استجدّا، إعلان أحد مالكي القنوات الإعلامية ورئيس جمعية تحمل اسم ابنه الذي وافته المنية إثر حادث مرور ترشّحه للانتخابات الرئاسية المقبلة من خلال قناته الإعلامية تلك. وكان الرجل، منذ أكثر من سنتين، ومن خلال الجمعية التي يرأسها، قد بدأ، وبشكل منهجي يوزّع الإعانات الاجتماعية على محتاجين وفقراء. ويبدو أنه سخّر إمكانات هائلة جعلته يغطّي مناطق داخلية عديدة، وأحياء الأحزمة الحضرية للمدن الكبرى التي ينتشر فيها الفقر والخصاصة. كان هذا العمل الخيري يحظى بتغطيةٍ إعلاميةٍ مركّزةٍ من قناته التلفزية الخاصة التي تفرده شخصياً بحوار مطول مع كل نشاط خيري يقوم به، من خلال جمعيته الخيرية. وسيكون هذا الأمر محموداً، لو اكتفى الرجل بتجسيد فضيلةٍ أخلاقيةٍ نبيلة، وهي الإحسان للفقراء والمحتاجين، غير أن الأمر انقلب لدى بعضهم إلى رذيلة، حين تم استثمار تعاسة الفقراء وشقائهم لتنمية رصيده السياسي في سباقٍ انتخابي، يبدو أنه فتح الباب على مصراعيه أمام كل التجاوزات.
الحدث الثاني وراء اندلاع هذا النقاش العمومي الأعمال الخيرية التي تكثفت خلال شهر رمضان، وتحديداً موائد الإفطار، وجملة المساعدات الاجتماعية الأخرى للفقراء والمحتاجين، وهي تثير تحفظاتٍ كثيرة، خشية أن تكون بعض الحركات السياسية، في إشارة إلى حركة النهضة، وراءها، على الرغم من نفي الأخيرة مثل هذه المبادرات، واكتفائها، حسب ما تؤكد، بالعمل السياسي، تاركة العمل الدعوي والاجتماعي للجمعيات والمبادرات المواطنية.
وتحسباً لاستفحال الأمر، بادر نوابٌ مقرّبون من رئيس الحكومة إلى إعداد مشروع تنقيح للقانون المنظم للانتخابات، يجبر رؤساء الجمعيات، وتحديداً الخيرية، وأصحاب المؤسسات الإعلامية، على الاستقالة، سنةً قبل إجراء الانتخابات، إذا ما رغبوا في خوض سباق الانتخابات، حتى تتساوى الفرص قدر الإمكان، ومنع ارتشاء الناخبين، بذريعة العمل الخيري، أو توجيه خياراتهم والتلاعب بها إعلامياً.
هل ستحظى هذه التنقيحات بموافقة مجلس النواب، وقد بدت الطبقة السياسية منقسمة بشأنها، 
خصوصاً أن بعضهم يثير طعوناً تتعلق بعدم دستوريتها، وتغييرها قواعد اللعبة أشهراً قليلة قبل الانتخابات. ولكن الثابت أن هذا التنافس الانتخابي هو الأصعب الذي تشهده تونس، منذ الثورة، في ظل صراعٍ يبدو أنه لم يعد محتكماً لقواعد قانونية وأخلاقية دنيا. ثمّة حالة من التعنت والاستهتار بالمواثيق التي تحتكم إليها الديموقراطية في هذه الحالات. وقد رأينا جمعياتٍ تحظى بتمويلات خيالية، تنقلب فجأة إلى مبادرات سياسية تلتف حول مترشحين نكرة، يقيم بعضهم في الخارج.
تحتفظ ذاكرة الناس بما عمد إليه الرئيس بن علي، حين أسس الصندوق الوطني للتضامن، المعروف بصندوق 2626، بعد زيارته مناطق داخلية. أعلن ذلك اليوم (8 ديسمبر/ كانون الأول) من كل سنة يوماً وطنياً للتضامن. كان الرجل يبحث عن مشروعية اجتماعية، تمنحه قبولاً أخلاقياً، وهو النكرة الذي ينقض على سلطةٍ بناها قبله الرئيس بورقيبة بكاريزميته وتاريخه الحقيقي، والمؤسطر أحياناً. استثمر بن علي أموال الدولة، وما يتبرّع به المواطنون قناعة أو خوفاً، لافتتاح مشاريع كانت توصف "رئاسية"، مثل تعبيد الطرقات الريفية وبناء مستوصفات للعلاج وتحسين المساكن البدائية، وكلها من مال التونسيين، المجموع خوفاً أو قهراً. اكتشف الناس بعد الثورة الفساد في ذلك الصندوق وغيره. ولذلك يبدو التخوف مشروعاً، حين يبادر بعض الساسة إلى شراء ولاء الناس، من خلال الأعمال التضامنية تلك التي تؤسس لزبونية سياسية تزور إرادة المواطنين الأحرار.
ويخشى التونسيون أن يكون إخفاق الدولة في حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وتنامي أعداد المهمشين، وتوسع فئات الفقراء، فضاء ملائماً للاستثمار مجدّداً في مسألة شقاء هؤلاء وفقرهم، من أجل شراء أصوات الناس في الانتخابات المقبلة، بعد ثورة أطلق عليها "ثورة الكرامة". وما لم تحصّن الديموقراطية نفسها، فإنها قد تفتح منافذ العبث بها من خلال مال فاسد، وإرادة ناخبين غدت به مزوّرة.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.