أميركا مع إيران.. عصا من دون جزرة

أميركا مع إيران.. عصا من دون جزرة

28 مايو 2019
+ الخط -
أنهى الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة)، الموقع في العام 2015 بين إيران وقوى عظمى، تتقدمها الولايات المتحدة الأميركية، أزمة استمرت 12 عاماً. مُنح مسؤولو الوكالة الدولية للطاقة الذرية الحق في فرض رقابةٍ وتدقيقٍ غير مسبوقين إقليميا ودوليا، وكان بإمكان علماء تابعين للوكالة أن يحللوا أسبوعياً عينات غبار مُجمَّعة من جميع أنحاء إيران؛ بحثاً عن جسيماتٍ دقيقةٍ قد تكشف عن غشٍّ محتمل من جانب طهران. ولم يكن لإدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أن توقع مع إيران اتفاقا نوويا (وصفته بـ"التاريخي") لو لم تكن متأكدة من قدرة بنود الاتفاق على منع إيران من تطوير قنبلة نووية، ولو إلى أجل مسمى.
اختلف الأمر مع إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي تعهد مراراً، ومنذ حملته الانتخابية، بالانسحاب من الاتفاق، حال وصوله إلى منصب الرئيس. حافظ ترامب على اتهامه إيران بـ"رعاية الإرهاب"، وتطوير برنامج صواريخ طويلة الأمد قادرة على حمل رؤوس نووية وكيميائية، مهدّدا بعدم تجديد التزام واشنطن بالاتفاق ما لم يتوصل إلى اتفاق جديد بشروط أكثر صرامة، وأعلن في الثامن من مايو/ أيار من العام الماضي (2018) انسحاب بلاده من الاتفاق النووي (وصفه بـ"الكارثي")، محذّرا إيران من مغبة مواصلة أنشطتها النووية، ومهدّدا بفرض "أعلى مستوى" من العقوبات عليها. مع ذلك، أبدى استعداده للتفاوض، عندما تكون إيران مستعدة للتوصل إلى اتفاق جديد يملأ ثغرات الاتفاق القديم، ما يعني فعليا نسف مبدأ 
التفاوض من أساسه، ومطالبة طهران بالإذعان.
بينما اكتفى أوباما ببنود تضمن لجم إيران نووياً، يرغب ترامب بتضمين أي اتفاق مع إيران بعداً إقليمياً، وبنوداً تكبح طموح النظام الإيراني للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، المستمر برأي ترامب في "تغذية الصراعات والإرهاب"، ولا يزال يطوّر برنامج صواريخ باليستية موجّهة طويلة الأمد، يهدّد حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (السعودية وبقية دول الخليج وإسرائيل)، ما يدلل في نظره على أن إيران لا تحترم روح الاتفاق، بالإضافة إلى التدخل الإيراني غير المقبول أميركياً في سورية لصالح نظام بشار الأسد. تغيير سلوك إيران ومنعها من خوض "مغامرات جديدة"، مسألة أساسية لدى ترامب، لا سيما أن الاتفاق الموقّع سيصل إلى نهايته في غضون أعوام، وستتحرّر منه إيران لتنتج أسلحة نووية. أما تعليق العقوبات بموجب الاتفاق فقد وفر برأيه أموالاً لإيران، فاقت المائة مليار دولار، وظّفتها في تمويل "مغامراتها" (الأموال الإيرانية المجمّدة في البنوك الأميركية والأوروبية بعد الإفراج عنها).
بعد مزيد من العقوبات الأميركية على طهران، هدفت إلى تصفير إنتاج النفط الإيراني، هدّدت إيران بإغلاق مضيق هرمز، وارتفع سقف الخطاب بين الجانبين، والتهديد المتبادل باستخدام القوة العسكرية، لتلوح في الأفق نذر "مواجهةٍ" أميركية مع إيران. ليس سراً أن الرئيس ترامب لا يرغب في إشراك القوات الأميركية في حربٍ أخرى في الشرق الأوسط، فمن شأن القيام بذلك أن يكسر أحد وعود حملته الرئيسية، وهو لا يبذل قصارى جهده للوفاء بتلك الوعود فحسب، بل إنه يعلم أيضًا أن الدخول في حربٍ قد يكلفه انتخابات عام 2020. لذلك لا يزال ترامب، المولع بإبرام الصفقات، يصر على التفاوض، ويراهن على عودة إيران إلى طاولة المفاوضات، راكعة أمام الشروط الأميركية، لكن تلك الرغبة تتعارض مع إرادة فريق إدارته من الصقور الميالين، وفي مقدمتهم مستشاره لشؤون الأمن القومي جون بولتون، إلى سياسة التدخل في النزاعات.
سابقا، لم يستجب الرئيس أوباما لرغبة إسرائيل في توجيه ضربة عسكرية لإيران، كما رفض تحرّكا إسرائيليا عسكريا منفردا، لكن إسرائيل تبدو اليوم متفائلة مع مواصلة ترامب تعيين "أصدقاء حقيقيين لإسرائيل في مناصب عليا"، كما ذهبت وزيرة العدل الإسرائيلية، أيليت 
شاكيد. بولتون أحد هؤلاء الأصدقاء الذي عارض بشدة الاتفاق النووي، وقضى سنواته خارج الحكومة في "أميركان إنتربرايز"، المركز الفكري المحافظ الأول في واشنطن، ومذيعا في "فوكس نيوز"، متحدثاً مدفوع الأجر للمعارضة الإيرانية (مجاهدي خلق)، والمصنفة، منذ سنوات، جماعة إرهابية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي وعدها في العام 2017 بإطاحة النظام الإيراني، وتوقّع الاحتفال بهذه المناسبة في طهران العام الحالي (2019).
يبدو بولتون اليوم أكثر تفاؤلاً في تحقيق أهدافه، مع وصوله إلى ذروة مؤسسة وضع السياسات، وهو يتقاسم مع ترامب عدة قناعات؛ الدفاع عن السيادة الوطنية، والانتقاد اللاذع الذي يصل إلى حد الكراهية للمنظمات المتعدّدة الأطراف (الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية...)، وأن خطة العمل الشاملة المشتركة أوقفت البرنامج النووي الإيراني سنواتٍ مقبلة، إلا أنها سمحت للنظام الإيراني بالاحتفاظ بنفوذه السياسي والعسكري. ولكن بولتون، من موقعه مستشارا لترامب، تسبب في فشل محادثات الأخير الثانية مع رئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، في فبراير/ شباط الماضي في هانوي، حين صاغ قائمة متطرّفة طالبت الديكتاتور الكوري بكل شيء في مقابل لا شيء، كما تسبب في تعقيد الوضع في فنزويلا، حين أخطأ في تقدير قوة المعارضة، لمعرفة حدود ما يمكن لواشنطن فرضه على الرئيس مادورو. اليوم، يريد بولتون توسيع شروط النزاع مع إيران، وصولا إلى حربٍ يأمل منها أن تشل النظام أو تسقطه تمامًا. ومعه، قد تكتمل استراتيجية مُصَمِّمَة لدفع ترامب بعيداً عن التفاوض، وإلى وضعٍ تكون فيه القوة العسكرية خياره الوحيد.
فشلت سياسة التصعيد في منع إيران من إظهار القوة. وبدلا من الركوع، استخدمت نفوذها، ومليشياتها، ووكلاءها في المنطقة، لنقل الأسلحة، وإعادة الانتشار، والاستعداد لضربة استباقية للرد على واشنطن، وأطلقت صواريخها من اليمن باتجاه دول الخليج، ويرجّح وقوفها وراء 
استهداف سفن نفط إماراتية وسعودية أخيرا. مع التخلي عن الجزرة، والاكتفاء بالعصا، يستمر حشر إيران في الزاوية، من دون منحها فرصةً مناسبةً لتراجع مشرّف عن التصعيد، وقبول الشروط الأميركية، فإن الطابع الأيديولوجي المتشدّد للنظام الإيراني قد يطغى على براغماتيته هذه المرة، في مواجهة تشدّد بولتون مستشارا لا يرى سوى موقفه ووجهة نظره، وحلفاء له محافظين وأيديولوجيين في الإدارة الحالية، إلى جانب زئبقية ترامب التي قد تدفع به نحو تغريدةٍ مفاجئةٍ في ساعة متأخرة من الليل، يعلن فيها أن الحرب قد بدأت. ولكن إذا كان من السهل الشروع في الحرب، فإن من الصعب الخروج منها، والسيطرة عليها، ولا يكفي لوم إيران على عدم خضوعها تبريرا لدمار جديد في المنطقة، واستنزاف إضافي لمقدراتها.
على الرغم من سقف خطابٍ عدائيٍّ مرتفع، يعلن الطرفان عدم رغبتهما في الحرب، مع الاستعداد لها، لكن اعتقاد كل طرفٍ أن الآخر لا يريد الحرب هو تحديدا ما يزيد خطر المواجهة المسلحة، فقد توفر الطمأنينة الخادعة هامشا واسعا لأخطاء في التأويل، وتحرّكات عسكرية غير محسوبة، في مناطق التماس، في غياب قنوات اتصال بين الطرفين.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.