شعر على وزن غزّة

شعر على وزن غزّة

08 يناير 2024
+ الخط -

عبّر آرييل شارون (صحيفة معاريف: إبريل/ نيسان 2005)، رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، عن إعجابه بشعر محمود درويش، قائلًا إنه "يحسده، والفلسطينيين عمومًا، على علاقتهم الوجدانية بالأرض". لكن شارون لم يمتلك شجاعة التفسير ليعلن أن ما يحسد الفلسطينيين عليه من علاقة بالأرض قد تولّدت في سياق تاريخ طويل من التفاعل معها، لإنتاج هوية ثقافية متوارثة، عبّروا عنها في سردية جامعة، تجسّدت رموزها في تعبيراتهم الأدبية والشعرية والغنائية، وفي نمط حياتهم اليومي، ما يقيم فارقًا كبيرًا بين السكان الأصليين وجماعة من مستوطنين لا يربطهم بأرض استعمروها غير وهم جماعة دينية متخيّلة، تغذّيها الأيديولوجيا الصهيونية.
ولأن الحسد، في واحد من أكثر معانيه بلاغة، هو تمنّي الحاسد زوال النعمة عن محسوده، فهو شعورٌ غير حميد، فلا يغيب عن شارون إدراك المستعمر أن احتلال الأرض لا بد أن يتزامن واحتلال عقول المستعمَرين وأجسادهم، في سياسة ممنهجةٍ لاقتلاعهم من أرضهم، وإقامة جدران الفصل العاطفي بينهم وبين المكان، فتحطيم عالم المعنى الفلسطيني غير ممكن، من دون فصم عرى العلاقة بين الأرض والذاكرة. من هنا يجب اقتلاع الفلسطيني من الجغرافيا، تمهيدًا لخروجه من التاريخ. تسوء علاقةُ الفلسطينيين الوجدانية بأرضهم. شارون، ولا شكّ أنه تمنّى (مع سلفه اسحق رابين) أن يبتلع البحر غزّة، وكل معنى فلسطيني، صريح أو مجازي، قبل أن يقرّر الانسحاب من القطاع، مع كل حرصٍ على إبقاء حياة الفلسطينيين تحت احتلال حصار مستمرّ. 
تمسّك الفلسطيني بأرضه وفعله المقاوم لا يزالان يوقظانه من سباته الاستعماري، وفي قطاع غزّة؛ البقعة الأكثر كثافة على مستوى العالم، حيث لا فائض من مكان، يكثّف أهل القطاع، غزّيين ولاجئين، علاقتهم الوجدانية بالأرض، سيما حين تصبح وتيرة الموت أسرع من اعتراف العالم بحجم الجريمة، ومن خطاه نحو وقف الإبادة الجماعية. وغزّة، حيث الموتى "ماتوا فُرادى أو عواصمْ"، لا تخونُها الكلمات، فحين يعجز جسدها عن مواجهة الموت، تواجهه بمجازها، أوليس الشعر في أحد وجوهه "أنشودة تتصاعد من جرح دام؟"، بحسب جبران خليل جبران.

حين خطفت غزّة النار لتمنحها لنا نحن البشر، عصفت بها الطائرات، فقصفت أفكارنا وقلوبنا، فبكينا "مثل القبائل"

غزّة تزن شعرها في قصائد غير مكتملة كنقصان الحياة فيها، فيستطيع قلبها "أن يرمي لنافذةٍ تحيتهُ الأخيرة"، فتقول سيدة في وداع طفلتها: "حطّي قلبك على قلبي يمّا"، ويتحسّس قلب سيدة أخرى ملامح وجه ابنها بين الحشود، قبل أن تتحسّس بيديها موتًا سرى في عروقه، فتدلّ عليه بقولها: "شعره كيرلي.. وهو أبيض وحلو". في غزّة، يودّع الجد حفيدته أنينًا: "روح الروح"، وتخشى سيّدةٌ على أبنائها من ألم الجوع، قبل أن تخشى عليهم قسوة الموت: "الأولاد ماتوا من غير ما ياكلوا"، وأخرى تطلب من الله أن "يرمي الصبر على قلبها" رميًا حين بات الصبر ضربًا من رجاء. في غزّة، حيث الحليب لا "يروّض وحش الفلاة"، يتنازل طفلٌ عن وعد الطفولة، وحوافز المستقبل، أمام كل موتٍ طائش، فيقول: "احنا بفلسطين منكبرش". 
"بينتقموا منا بالأولاد... معلش"، قالها وائل الدحدوح، وباتت عبارة شهيرة للصمود، ومعها أنشد الفلسطينيون "سوف نبقى هنا"، وكأنهم "عشرون مستحيل"، بتعبير توفيق زيّاد. في الخسارة "شاعرية أعمق"، كما يقول درويش، الذي يوجّه كلامه لمحاورته الإسرائيلية (فيلم "موسيقانا"، إخراج جان لوك غودار: 2004): "نحن قليلو الحظ في أن تكون إسرائيل هي عدوّنا، لأنها تحظى بمؤيدين لا حدّ لهم في العالم. ونحن أيضاً محظوظون لأن تكون إسرائيل عدوّنا، لأن اليهود هم مركز اهتمام العالم. لذلك ألحقتم بنا الهزيمة وأعطيتمونا الشهرة". ويسأل الشاعر: هل "بإمكان شعب أن يكون قوياً دون أن يكتب شعراً؟". في المجاز خلود، وشعراء غزّة أكثر شهرة من الموت والهزيمة. في غزّة، يقتل القاتلَ مجازُ القتيل، فلا يتردّد قناصٌ يحسد الفلسطينيين، كما سيّده شارون، في أن يردي، قتيلةً عند باب بيتها، مسنّة ثمانينية نجت مرّة من مصائد موته، فقالت: "أنا أكبر من إسرائيل". أحكمت تلك السيدة الشهيدة إغلاق باب بيتها أمام رياح التهجير، من دون حسابٍ لرياح الموت. 
حين خطفت غزّة النار لتمنحها لنا نحن البشر، عصفت بها الطائرات، فقصفت أفكارنا وقلوبنا، فبكينا "مثل القبائل"، بعد أن "صارت القبائل فروعًا تقاتل أغصانها... والجذور"، كما قال يومًا عزّ الدين المناصرة مودّعًا غرناطة. أما غزّة التي ترفض هزيمة الروح، فيفيض مجازُها عن مألوف قولها، ويلتقي الضدّان؛ مجاز الشعر وقسوة الموت. غزّة تقول مجازها الشعري ولا تكتبه، فالكتابة مهمّة التاريخ.