هل ستنتهي الحرب؟

هل ستنتهي الحرب؟

31 يناير 2024
+ الخط -

على عكس الحروب النظامية، التي تكون أهداف المتحاربين فيها محدّدة، تكون أهداف الحروب الاستعمارية مطلقة، تسعى إلى السيطرة الكاملة والدائمة على الأراضي المحتلة وسكّانها، لضمان "الاستقرار الدائم"، وهي إن بدأت لا تنتهي إلا في حالين: أن يسلّم الشعب الأصلاني (المُستعمَر) بهزيمته ودونيته، ويقبل بـ"سلام" يقّر بتفوق المُستعمِر، أو تفكيك المنظومة الاستعمارية وحل المشكلات الأساسية الناجمة عنها، من تدمير ممنهج للإنسان والمجتمع وتطهيره عرقياً. وإضافة إلى حروبٍ رافقت قيام دولة الاحتلال وأعقبتها، شنّت إسرائيل ضد قطاع غزّة سبع حروب، بما فيها الحرب الحالية، منذ أعلنت القطاع، في سبتمبر/ أيلول 2007، "كياناً معادياً". ومع سرورنا بمرمغة المقاومة أنفَ الاحتلال في غزّة، نفجع بحجم الكارثة غير المسبوقة نتيجة جرائم الاحتلال المسبوقة، طوال ما يزيد عن 75 عاماً. لكننا جميعاً نتمنّى أن تتوقف الحرب عاجلاً لا آجلاً. لكن، هل ستكون هي الحرب الأخيرة؟
قاد نتنياهو خمس حروب على غزّة، هدفها قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول "جزّ العشب". واليوم، يزعم أنه يريد اقتلاع "العشب" من جذوره. لا يعبأ نتنياهو باستعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، بل يريد الانتقام من الفلسطينيين، واسترجاع استراتيجية الردع المتآكلة. يريد تدمير المجتمع الأصلاني، ومعه المقاومة، وجعل غزّة مكانا غير قابل للسكن، بتطهيرها عرقياً وإبادتها جماعياً. هذه أهداف تفرضها طبيعة إسرائيل بوصفها دولة احتلال استعماري استيطاني إحلالي. وهنا يسقط وهم عدم وضوح أهداف إسرائيل في بداية الحرب، فلم يكُن هناك خلافٌ على أهداف، لا بين القيادات الإسرائيلية، ولا بين هؤلاء وبين الولايات المتحدة، بل هو فعلياً خلاف على الوسائل والأساليب. وليست حروب إسرائيل الاستعمارية ضد الفلسطينيين حروباً عسكرية خالصة، بل ترافقها هيمنة ثقافية تحوّلت مع موشيه يعلون سياسة رسمية للاحتلال تحت مسمّى "كيّ الوعي"، بهدف إلحاق الهزيمة النفسية بـ"الآخر"، والذي يشمل، إلى جانب استخدام القوة، الإجراءات التعسّفية، والعقوبات الجماعية، لإعادة الحياة إلى الوراء، وتشكيل قناعاتٍ تضفي شرعية على الوضع الاستعماري السابق للمواجهة بوصفه الأفضل (الأقلّ سوءاً)، ولوم من تسبّب في خسارة الوضع القائم (المقاومين). وإن كانت الحروب الاستعمارية الخالصة تشهد استراحاتٍ طويلة الأمد نسبياً، فإن معارك "كيّ الوعي" لم تتوقف لا في الضفة ولا في غزّة.

قد يُنهي وقفٌ لإطلاق النار أو صفقة لتبادل الأسرى جولة الحرب هذه، لكنّه لن يضع حدّاً لجولات أخرى

وقبل أيام، أخبرنا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن دولا عربية لن تحرص على المشاركة في إعادة إعمار القطاع إذا كان "سيُسوّى بالأرض" مجدّداً في بضعة أعوام، وشدد على أهمية إقامة دولة فلسطينية شرطاً لتسويةٍ إقليمية. التأكيد على دولة فلسطينية ضمن صيغة "حلّ الدولتين" أصبحت أكثر وضوحاً في خطاب أعضاء المجتمع الدولي على اختلاف مواقفهم من الحرب، لكن من السذاجة السياسية تصديق أن المجتمع الدولي، العاجز عن وقف المقتلة في غزّة أو حتى إمداد القطاع بالمساعدات الإنسانية، قادرٌ على أن يفرض على الحكومة الإسرائيلية الحالية، الأكثر يمينيةً على الإطلاق، قبول حلّ الدولتين، ونعلم مما رفعت عنه السرّية أخيراً في إسرائيل (جوانب من محضر جلسة الحكومة للمصادقة على "أوسلو": 30 أغسطس/ آب 1993)، أنه حتى أكثر الحكومات يسارية في تاريخ الاحتلال لم تكن تنظر إلى هذه الاتفاقية نقطة انطلاق نحو التخلّي عن الاحتلال ومنح الفلسطينيين الحق في تقرير المصير والاستقلال، وعارض رئيس تلك الحكومة إسحق رابين أي نقاش حول القدس، ووعد بإقامة "سلطة فلسطينية" تعمل، من وجهة نظره، "مقاولاً ثانوياً أمنياً" لدى الجيش الإسرائيلي، وتكبح صعود "حماس". وفي 5 أكتوبر 1995، قال رابين إن مناطق من أراضي 1967 أرصدة أمنية استراتيجية ينبغي استمرار السيطرة عليها، وأن سقف الفلسطينيين حياة في "كيانٍ أقلّ من دولة". أكّد نتنياهو في غير مناسبة على اتفاق واسع يجمعه ورابين في ما يخصّ "المستقبل السياسي". إسرائيلياً، كان الحديث ولا يزال عن سلطة لا عن دولة، مع فارق أن نتنياهو، وأركان حكومته، يتنازلون عن أي مميزات يفترضها وجود السلطة.
قد يُنهي وقفٌ لإطلاق النار أو صفقة لتبادل الأسرى جولة الحرب هذه، لكنه لن يضع حدّاً لجولات أخرى قادمة، وسيبقى الاتفاق على مصطلحي "الهزيمة" و"النصر" مسألة معقّدة طالما لم تَحسِمْ المعركة على الأرض تلك المعركة الوجودية بين الخير والشر. في كلّ حال، يتناسب مصطلح "وقف إطلاق النار" مع حربٍ بين جيشين نظاميين، وفي خضمّ الحروب الاستعمارية يحمل كثيراً من تضليل، ويُخرج الحرب عن سياقها الاستعماري، لتختزل في جدل "من بدأ إطلاق النار؟"، وتكريس التمايز الذي تريده إسرائيل بين حصار وتجويع وخنق مستمرٍّ بوصفه "عنفاً مشروعاً"، وبين هجوم لكسر واحدة من حلقات الدائرة الاستعمارية بوصفه "عنفاً غير مشروع".

لا سلام ممكناً على أساس "التفوّق اليهودي"، بل على أساس المساواة، وتصحيح الغبن التاريخي بحقّ الفلسطينيين

رحيل حكومة إسرائيلية أو رئيسها لا يعني التحوّل عن السياسة الاستعمارية وحاجتها الدائمة للحرب، فلا توجّه إسرائيل حروبها إلى "الآخر" فقط لخدمة أهدافها الاستعمارية، بل توجّه أيضاً رسالة إلى الداخل مفادها أن عليكم أن تعتادوا الحرب، تعزيزاً لوعي التمايز بين "نحن" و "هم" لإحكام سيطرة المشروع الصهيوني. الحروب التي تهدف إلى تلقين "الآخرين" درساً هي حروب فيها استراحات لا آخر لها. صحيحٌ أن نتنياهو يواجه احتجاجات عائلات الأسرى والمتضامنين معهم، لكنه، أيضاّ، يستثمر رغبة غالبية الجمهور الإسرائيلي في الانتقام لقتلى 7 أكتوبر وما بعدَه في شعاب غزّة. أما حجّة الدفاع عن النفس فهي قديمة، برزت مثلاً في حرب لبنان العام 1982 التي سُمّيت "سلامة الجليل" (من صواريخ المقاومة الفلسطينية)، وأثارت العملية في حينه أكبر حركة احتجاجية معارضة للحرب في تاريخ دولة الاحتلال، انطلقت بمجرّد أن تجاوز جيش الاحتلال حدود 40 كيلومتراً وحاصر بيروت. بدا ذلك مؤسّساً لعلاقةٍ جديدةٍ بين الجيش والمجتمع لصالح دور الرأي العام في قرارات الحرب، مع نشوء مجموعاتٍ اعتراضيةٍ مدنية كبيرة (مثلاً: "حركة الأمهات الأربع" و"لنكسر الصمت")، وجّهت اللوم لمقتل الجنود الإسرائيليين إلى شارون وليس إلى الفلسطينيين أو غيرهم. ورغم شرخٍ أحدثه غزو لبنان في المجتمع الإسرائيلي، تعايش الاستعمار الاستيطاني مع تناقضاته الداخلية بتصعيد المواجهة مع "الآخر" وشيطنته. رحل شارون وبقيت الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية خلف حروبٍ أخرى حشدت وراءها الجمهور الإسرائيلي.
أمام حقيقة الطبيعة الاستعمارية لإسرائيل وحروبها، وفي غياب إرادة دولية حقيقية في العدالة والإنصاف، قد تتخلّل الحرب الحالية هدنةٌ ما، أو تؤدّي نهايتها إلى إطلاق مسار تفاوضي تحت عنوان "حلّ الدولتين"، ما يمنح دولة الاحتلال فرصةً لترميم صورتها وخسائرها الإعلامية، وترتيب أوراقها الداخلية، لكن علينا ألا نتوقّع أن نشهد في الأفق المنظور دولة فلسطينية، و"السلام الروماني"، الذي تريده إسرائيل وحلفاؤها، لن يمنع حروباً استعماريةً قادمة على الفلسطينيين، بذرائع مختلفة، ما بقيت المنظومة الاستعمارية قائمة، فلا سلام ممكناً على أساس "التفوّق اليهودي"، بل على أساس المساواة، وتصحيح الغبن التاريخي بحقّ الفلسطينيين، بما في ذلك عودة اللاجئين، وإعادة توزيع الموارد، والكفّ عن سياسة التمييز العنصري، ما يعني فعليا تفكيك المنظومة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية. هذا ما لا يريد المجتمع الدولي، ولا حكّامٌ عرب، الإقرار به.