دوامة انتظار المصير البائس في مصر

دوامة انتظار المصير البائس في مصر

19 مايو 2019
+ الخط -
مشهد رعب في فيلم سينمائي شاهدته قبل سنوات. مجموعة من البشر في قفص حديدي، لا أحد منهم يعرف مصيره. حالة من الرعب والترقب تسيطر عليهم، ثم فجأة يُفتح بابٌ في سقف ذلك القفص المعدني، لتنزل ذراع طويلة تتحرّك بمرونة، فيما يشبه خرطوم الفيل أو الثعبان، لتلتفّ تلك الذراع حول أحدهم بشكل عشوائي، لتسحبه من قدمه أو يديه، وترفعه إلى أعلى الفتحة، وسط صراخ الجميع، ومحاولات فاشلة لإنقاذه وسحبه إلى الأسفل وتخليصه من الذراع، ولكن من دون جدوى. وبعد لحظات، يتم إلقاء بقايا الضحية، بعد أن امتصت تلك الآلة دمه وخلايا جسده.
الفيلم من نوعية أفلام التشويق والخيال الكارثي، تم عرضه عام 2005، واسمه (war of the worlds)، بطولة توم كروز وإخراج ستيفن سبيلبيرغ. يحكي عن غزو فضائي لكوكب الأرض، حيث تجمع الكائنات الفضائية البشر في ذلك القفص، بغرض أن تتغذى عليهم، وتستخدمهم وقوداً. والفيلم عموما ذو إيقاع لاهث، ولكن مشهد القفص المعدني، وانتظار المصير المؤسف بلا حيلة، كان أكثر المشاهد رعباً وكآبة بالنسبة لي. ولكن نهاية الفيلم سعيدة، فقد تمكّن بطل الفيلم من الهرب من القفص المعدني بعد تفجيره من الداخل. ولم يكن ذلك ليتحقق لولا شجاعته ومحاولاته وإصراره على المقاومة، وكان ذلك ملهما للآخرين، حتى تمكّنوا جميعاً من هزيمة الغزاة الفضائيين، بعد انهيار دروعهم الكهرومغناطيسية.
للأسف الشديد، أصبحت الحياة السياسية في مصر تشبه ذلك المشهد المرعب أعلاه، مشهد القفص المعدني، وانتظار النهاية البشعة، وترقب التنكيل بدون مقاومة. لم يعد هناك نشاط
 سياسي يُذكر، وليست هناك معارضة قوية تهدّد نظام الحكم الحالي، فجماعة الإخوان المسلمين التي تُعتبر الفصيل الأكبر في المعارضة، إن صح التعبير، تلقّت ضربات كبيرة منذ 3 يوليو/تموز 2013، فقُتل الآلاف وسُجن عشرات الآلاف من أعضاء الجماعة وأنصارها، بالإضافة إلى عشرات الآلاف في المنفى، وأيضا ذلك الانفصال بين القيادات في السجون والكوادر خارجها، وجنوح بعض شباب الجماعة إلى العنف الذي خصم من رصيديها، الشعبي والدولي، وسهّل من مهمة نظام الحكم، بالإضافة أيضاً إلى ظهور عدة جبهات، تمثل "الإخوان" لكل منها خطاب مختلف. ولا يختلف الأمر كثيرا عن حال ما يُطلق عليه المعارضة المدنية، أو ما تبقى من المجموعات الثورية، فهناك أيضا مئات قُتلوا وآلاف دخلوا السجون، ومثلهم في المنافي، وإن كان لا يزال بينهم وبين جماعة الإخوان خلاف كبير بشأن قضايا الحكم الديني، وأخطاء الجماعة في الحكم، ومطلب عودة محمد مرسي أولاً، والذي يرفعه "الإخوان" في كل مناسبة، أو عند ظهور بوادر بعض الحراك.
لا توجد معارضة في مصر، فقد استقر نظام الحكم بنسبة كبيرة، قمع مفرط لا مثيل له في تاريخ مصر، واعتراف دولي بشكل ما نتيجة الواقع الجديد والتطورات في المنطقة، ودعم مادي غير محدود للنظام المصري من دول خليجية، ودعم سياسي ومعنوي من الإدارة الأميركية وعواصم أوروبية. عشرات الآلاف في السجون، بالإضافة إلى أعداد ضخمة ممن استطاعوا النجاة والعيش في عدة دول، أبرزها تركيا وقطر وبريطانيا، بالإضافة إلى عواصم أوروبية وآسيوية. وفي الداخل، يصبح الوضع كل يوم أكثر سوءا من اليوم الذي يسبقه. قلة الحيلة هي التي تسيطر على المشهد، والسلطة المنتصرة تفرض إرادتها، وتنكّل بالخاسر.
يشبه وضعنا في مصر ذلك المشهد المرعب في ذلك الفيلم. تقبض الأجهزة الأمنية كل فترة
 على نشطاء سابقين، توقفوا، منذ سنواتٍ، عن القيام بأي نشاط معارض. أصبحوا عازفين عن الشأن العام، وأصبحت الأولوية للعمل والبحث عن الرزق وبناء بيت وتربية الأولاد، فلا يوجد شيء مهم. ومن يتم القبض عليه بسبب تعليق ساخر على الإنترنت قد يظل سنواتٍ في السجن، وتجوع عائلته، ولكن الابتعاد عن المعارضة أو الشأن العام لا يمنع التنكيل بأثر رجعي، فالسلطة الحالية لا تنسى ما حدث في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وأصبح الانتقام هو الهدف، بعد انتصار الثورة المضادّة. ويشبه ذلك قصصاً نسمعها عن نماذج مريضة في جميع المجتمعات، عندما يكون هناك أب فاشل ومدمن أو سكير، يبدأ في ضرب أولاده وتعذيبهم بهستيرية، للتغطية على فشله، أو عندما يوجه أحدهم اللوم له أو النصيحة.
حملات أمنية وبوليسية غير مفهومة، تم القبض فيها على عدد كبير من الأصدقاء بدون تهم واضحة. وعلى الرغم من أنهم كانوا قد ابتعدوا عن أي نشاط له علاقة بالمعارضة، أو الشأن السياسي بشكل عام، تم اختراع قضايا تافهة بتهم وهمية يكون عنوانها الانضمام لجماعة محظورة، أو مساعدة جماعة الإخوان المسلمين على تحقيق أهدافها، حتى لو كان المقبوض عليهم أبعد ما يكونون عن التوافق مع "الإخوان" أو التعاون معهم، بل لبعضهم مواقف متشدّدة تجاه الجماعة. حاول حقوقيون ومحللون الوصول إلى سبب تلك الحملات والاعتقالات والتهم، ولكن لا منطق في هذا كله. بعضها قضايا مفبركة على سبيل الانتقام من مواقف سياسية قديمة، وأخرى يكون تفسيرها أن هناك ضابطا ما في جهاز أمني ما يريد الإيحاء بأنه يجتهد في عمله لحماية الرئيس والنظام من الأخطار المحيطة.
بدأت أخيرا حملة جديدة للتنكيل غير المبرّر وغير المفهوم، طاولت من بين من طاولتهم شقيقي مصطفى ماهر، حيث قبضت قوة من قسم القطامية في القاهرة الجديدة عليه من منزله، وهو قسم الشرطة نفسه الذي أقضي فيه نصف يومي كل ليلة في الحبس. لم تكن هناك اتهاماتٌ 
واضحةٌ كالعادة. وبعد ذلك بأيام، وجدنا قضية جديدة تم اختراعها، وتم ضم الصديق المحامي اليساري، هيثم محمدين، إليها، وهي قضية عجيبة فيها خرافات وقصص خيالية عن تخطيط لتظاهراتٍ في الصيف المقبل، وإعانة جماعة إرهابية على تحقيق أغراضها. وكالعادة يفاجئوننا من ذلك الخيال الواسع في اختراع تهم وقصص خرافية جديدة.
على المستوى الشخصي، هذا عبء جديد، فما زلت منقوص الحرية، ومقيدا في إمكانية التحرّك، بسبب قضائي عقوبة المراقبة المسائية. هذه المرة، أنا الذي يحاول البحث عن المحامين، ومتابعة القضية والتفاصيل، وشقيقي هو الذي كان يتابع أحوالي في فترة حبسي منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2013، هذا بالإضافة إلى حالة الحزن في العائلة التي لم تبارحنا منذ وفاة أمي رحمة الله عليها قبل شهور قليلة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأخيرا، فإن الدرس الذي يمكن استنتاجه من حملة الاعتقالات أخيرا، والتي طاولت شقيقي، أو الحملات السابقة التي طاولت أصدقاء مقرّبين عديدين، أن الابتعاد عن الاهتمام بالسياسة والشأن العام ليس عاصماً، والتوقف عن النشاط المعارض والمقاوم لا يمنع الضرر أو يوقف التنكيل، فمقاومة الظلم واجبة، ولو بالكلمة، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017