القضية الفلسطينية والأجيال العربية الجديدة

القضية الفلسطينية والأجيال العربية الجديدة

01 نوفمبر 2023
+ الخط -

كان نقاشا رائعا ذلك الذي دار بين ابني الصغير (12 عاما)، وابن أخي الصغير (7 أعوام)، كان عن القضية الفلسطينية وبدايتها، وعن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وأصل المشكلة والاحتلال الصهيوني. من أوجه الاستغراب أنهما يقضيان معظم الوقت بين الألعاب الإلكترونية ومتابعة فيديوهات يوتيوب وتيك توك، ولا يبدو على أيّ منهما متابعة أي من الأحداث المحلية والدولية.

لقد توارث الجيل الجديد الاهتمام بالقضية تلقائيا، بدون معلم، ولديه كل مصادر المعلومات في الليل والنهار، فالإنترنت مليءٌ بالكثير والكثير، ولكن هذا الجيل أكثر قدرة على التفاعل مع المستجدّات والأحداث المتلاحقة. ولذلك لم تكن مفاجأة كبيرة أن آلافا من الشباب صغار السن شاركوا في التظاهر لدعم غزّة والانتصار لها، عندما تم السماح بذلك سويعاتٍ في مصر، رغم المخاطر المتوقّعة عند المشاركة في تظاهرات. وتُلاحظ في البلدان العربية التي تسمح بالتظاهر دعما لغزة حماسة الأجيال الجديدة ممن لم تتجاوز أعمارهم 20 عاما.

تظلّ فلسطين القضية المحورية والرئيسية للشعوب العربية، رغم العلاقات الرسمية والتطبيع بين مصر وإسرائيل، ورغم الهرولة العربية نحو التطبيع بشكل أوسع من الإمارات والبحرين أو المغرب، ورغم ما كان يُحاك من ترتيبات التطبيع مع السعودية، لكن القضية باقية في قلب الشعوب، وهناك أجيال لا تعترف بتطبيع الحكومات ومعاهداتها، وتوارثت أجيال جديدة أن قضيتها فلسطين، وأن إسرائيل هي العدو.

تخشى الأنظمة الهشّة أي تجمّع شعبي حقيقي يقول رأيا حرّا، وتخشى دوما من الشرارة، وتستخدم نظريات المؤامرة وتصطنع أعداء وهميين لتخويف الناس

وفي الجولة الحالية من الصراع العربي الإسرائيلي، ظهرت أصوات وتغريدات عربية تدين المقاومة الفلسطينية أو تلومها، وهذا من الأمور الشاذّة منذ عدة سنوات، فالفضاء الإلكتروني ساهم في ظهور الأصوات والآراء غير المعتادة في شؤون الدين أو السياسة، وأخيرا أصبحت أكثر انتشارا، ليس فقط من اللجان الإلكترونية الداعية إلى التطبيع، وأصبح معظمها ينطلق من الإمارات، وإنما أيضا هناك أصوات تنطلق من أساس أيديولوجي أو عقائدي، أو لا عقائدي بالأصح. وفي غضون العدوان الإسرائيلي حاليا على قطاع غزّة، صادفنا أصواتا تلتمس العذر للعدو الصهيوني، أو توجّه اللوم لحركات المقاومة، ويرى بعضها الصراع دينيا في الأساس، ولذلك من منطلق علماني مثلا، أو لا ديني، لا يجب أن يُساند، ولا أن نعادي إسرائيل! يريد هؤلاء أن يتحرّروا من كل الماضي، بما فيه ما يتعلق بالعروبة والإسلام وكل هذا الإرث فتجدهم أكثر عداء للفلسطينيين من الصهاينة. وهناك أنصار التقوقع الداخلي، ممن يتساءلون: لماذا يكون لنا دور في هذا الصراع خارج أرضنا؟ وهناك من يحاول إيجاد مبرّر لعدم التعاطف مع القضية الفلسطينية، فيحاول ترويج مزاعم ردّدتها أبواق السلطة في مصر عامي 2013 و2014، أن حركة حماس قتلت جنودا مصريين قبل سنوات، وأنها جماعة إرهابية لا تستحقّ الدعم. وثمّة تلك الأصوات الشاذة التي انتشرت أخيرا من لجان إلكترونية محسوبة على الحكومات، تلوم مساندي غزّة بأنهم يهتمون بالجيران أكثر من اهتمامهم ببلدهم. وهذه كلمة يُراد بها باطل.

سواء صدرت الأصوات الشاذّة من منطلق أيديولوجي أو عقائدي فإنها ليست بذات تأثير كبير، فالقضية باقية ومتجدّدة في قلوب الأجيال الجديدة، اللوم كله على الحكومات العربية الخانعة والمطبّعة والمتوائمة مع العدو، إنها الأنظمة التي تعتمد على دعم إسرائيل لها من أجل التهرّب من المساءلة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، أو الأنظمة التي تسعى إلى نيل رضا إسرائيل أملا في نيل رضا أميركي يضمن استثمارات وقروضا جديدة، أو تلك الحكومات التي تسعى إلى طلب الحماية الإسرائيلية من التهديدات الإيرانية، فهم أكثر حرصا عن عدم إغضاب إسرائيل أو الولايات المتحدة. ولكن عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول كانت مبهرةً إلى درجة أن عديدين من أنصار السلطة في مصر كانوا يسبّون "حماس" ليلا ونهارا، ويتهمونها بالإرهاب، أصبحوا من المحتفين بها، أو على الأقل لا يحاولون سبّها علنا، وإنْ كان هناك إعلاميون يجاهرون بالعداء لها ولحركات المقاومة، وهؤلاء أفضل من المتلونين.

إلى ذلك، لا تنجح النظم الاستبدادية وأجهزتها الإعلامية إلا بالمتاجرة بالقضية، بغرض إرهاب شعوبها وتخويفها من المعارضة أو الانتقاد، وهناك من العرب من ارتكبوا مذابح قضى فيها أطفال عديدون تحت شعار المقاومة والممانعة وصدّ إسرائيل، ومن أبرزهم الظواهر الصوتية صدّام حسين ومعمّر القذافي وحافظ الأسد الأب وابنه.

لا تنجح النظم الاستبدادية وأجهزتها الإعلامية إلا بالمتاجرة بالقضية، بغرض إرهاب شعوبها وتخويفهم من المعارضة

وقد خرج بعض مؤيدي السلطة علينا، أخيرا، فرحين بأخبار منع تظاهرات دعم فلسطين في عدة عواصم أوروبية، أو أخبار القبض على متظاهرين بسبب دعمهم غزّة، متناسين أو متجاهلين عمدا عدة حقائق، أولها أن من يُلقى القبض عليه في أثناء التظاهرات لا يمكث في السجن أربع سنوات أو سبعا، كما يحدُث في بعض بلادنا العربية، بل قد يخرج بعد ساعات، أو قد يدفع غرامة في حال حدوث بعض التلفيات.

الأمر الثاني أن تلك الدول الغربية تربطها بإسرائيل علاقات عميقة من التعاون التجاري والتكنولوجي، بالإضافة إلى أن للوبي الصهيوني تحكمه في أمور حيوية هناك، ولذلك ليس هناك استغراب كبير من عدم قياسهم الأمور مثلما نقيسها نحن العرب جيران غزّة، ونحن نرتبط بتاريخ وجغرافيا وثقافة مشتركة، أما في دول عديدة في الغرب، إسرائيل هي الحليف، وتلك المظاهرات المؤيدةً لفلسطين يعتبرها بعضهم، خصوصا اليمين المتطرّف، معادية للغرب.

الأمر الثالث أن تلك الدول الأوروبية أصبحت أكثر سماحة مع التظاهرات الداعمة لغزّة وللحق الفلسطيني، بل تتحوّل مواقفها لتصبح أقلّ حدّة مع الوقت، وأصبحنا نرى كل يوم مسيرات بمئات الآلاف تندّد بالعدوان الصهيوني في معظم العواصم الأوروبية، وأيضا في الولايات المتحدة ذاتها، في حين أن التظاهر ممنوع في بلادنا خوفا من الفوضى المزعومة.

وهذا يقود إلى استنتاج آخر ليس جديدا، أن الدول القوية لا تخشى من المظاهرات، حتى لو كانت مندّدة بسياسات تلك الدول ذاتها، وحتى لو كانت تلك المسيرات تعلن عكس الرأي الرسمي للحكومة. أما الأنظمة الهشّة فهي تخشى أي تجمّع شعبي حقيقي يقول رأيا حرّا، وتخشى دوما من الشرارة، وتستخدم نظريات المؤامرة وتصطنع أعداء وهميين لتخويف الناس. وحتى عندما تتعاطى مع القضية الفلسطينية فهي تستغلها من أجل تثبيت دعائم الحكم لأطول فترة ممكنة.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017