انتخابات قبلية إسرائيلية

انتخابات قبلية إسرائيلية

16 ابريل 2019
+ الخط -
في وقتٍ تنصرف فيه أذهان معظم المتابعين نحو قراءة مغزى الفوز الشخصي الساحق لبنيامين نتنياهو في انتخابات الكنيست أخيرا، وينشغل فيه المهتمون بالمضاعفات الناجمة عن إحكام اليمين الإسرائيلي المتطرّف قبضته على أكثرية المقاعد النيابية، تغيب عن الأنظار ظاهرةٌ تتوارى خلف مشهدٍ غير مسبوق في الحياة السياسية لدولةٍ ذات قيم وتقاليد ديمقراطية (حصراً باليهود)، وتبرز من بين النتائج الإحصائية ملامح حالةٍ تشي بحدوث تحولاتٍ هجينةٍ في مسار مجتمعٍ، بدأ يأخذ بأسوأ ما في التقاليد السياسية العربية.
تحتاج هذه المقاربة إلى قدر كبير من إمعان النظر بعين الرائي المدقق في مفارقات المشهد الإسرائيلي المتكون حديثا، على نحو أبعد مدىً من حدود التوقف عند توزيعات خريطة المقاعد، وماهية الحكومة قيد التشكيل، وذلك عبر التقاط ملامح ما نسميه "تعريب" الحالة السياسية الإسرائيلية على يدي ملكها غير المتوّج، بنيامين نتنياهو، وملاحظة عوارض إصابتها بالعدوى المستوطنة في محيطها العربي الواسع.
تجديد ولاية نتنياهو خمس مرات في رئاسة الحكومة يعد واقعةً غير مسبوقة في أي من الديموقراطيات الغربية التي تتمسح بها إسرائيل، لا سيما أن هذا التجديد جاء وسط سيلٍ من التهم الثقيلة، والملاحقات القضائية، التي كان من المقدّر لها أن تحسم من حساب زعيم الحزب الحاكم، لا أن تزيد من رصيده، وهو أمر أحسب أنه كان سيدمر مستقبل أكبر مسؤول عربي مستبد، ولو في العالم الافتراضي.
ومع أن نتنياهو يجدد لنفسه عبر صناديق الاقتراع، لا من خلال صناديق الرصاص، أو التوريث، كغيره في بلادنا، إلا أن الديمقراطية الإسرائيلية هذه أنتجت، في المحصلة النهائية، حاكماً مخلداً، على غرار أكثرية الحكام العرب، يناهض شيئاً اسمه تداول السلطة، يحاكي قادة ملهمين لدينا، ممن يعتبرون أنفسهم قدراً مقدّراً، أو ضرورة تاريخية، ويظلون في ملكوتهم، ولو على كرسي متحرّك، إلى أن تخلعهم ثورة شعبية.
قد يعزو بعضهم نشوء هذه الظاهرة الفريدة إلى مهارات نتنياهو الشخصية، وبراعته الشديدة في بث الكراهية والتخويف، وقد يردها آخرون إلى انجراف المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين أكثر فأكثر، غير أن الحقيقة تقع في مكان أبعد، في موضع يقع وراء غلالةٍ شفيفة، ونعني بها تلك الأيديولوجيا المستحكمة بقاعدةٍ اجتماعيةٍ متعصبة، قبلية وانفعالية، تتجاهل ملفات الفساد، وتُعادي القضاء والإعلام والشرطة والمحكمة العليا، وتمنح زعيمها شيكاً على بياض، الأمر الذي أنتج ديمقراطية اسميةً تشبه ديمقراطية حسن روحاني.
كان لافتاً أن خطاب الحملة الانتخابية الإسرائيلية هذه جاء خالياً من القضايا السياسية، مفتقراً إلى تلك السجالات الطاحنة حول أيٍّ من الموضوعات المثارة عادة في الحملات السابقة، كما جرى خلال هذه الدورة استخدام أقذر الأسلحة الدعائية، بما في ذلك التعريض بالخصوم والمنافسين بقسوة، وتبادل الاتهامات الشخصية بشدة، الأمر الذي شخصن الحملة كثيراً، وجعل منها مجرّد سباقٍ بين قادة حزبيين وجنرالاتٍ ذوي كاريزمات خاصة، لا بين برامج حزبية.
في ذلك الخضم المتلاطم من الهجمات الشخصية الضارية، المفعمة بالأكاذيب والابتزازات والتشهير واللكمات تحت الحزام، حجب بنيامين نتنياهو وراء ظله الكثيف كل أعضاء قائمة حزبه، مع أن هذه الانتخابات تجري على أساس القائمة، كما استأثر "الساحر" بالأضواء وحده، فبدا هذا الديماغوجي الشعبوي وكأنه من رؤساء مجالس قيادة الثورة لدينا، أو قل الكولونيل الذي أتت به الأقدار، وربما المصادفة الموضوعية البحتة، لتخليص شعبه من الأشرار، وقيادة بلاده إلى غد مشرق عزيز طال انتظاره.
ليس الحديث هنا عن قواسم شَبه مشتركة بين إسرائيل ومحيطها العربي، لا في المجال الثقافي أو الاقتصادي أو التكنولوجي أو غيره، فشتان ما بين البينيْن، وإنما الحديث عن شِبه تماثل سياسي أفرزته الحالة الإسرائيلية الراهنة، لجهة طول أمد بقاء الحاكم في السلطة، وطغيان الزعامة الفردية، والتعصب القبلي للقائد الفذ، أي ما نسميه "تعريب" الحالة الإسرائيلية، وهي ظاهرة قد تتجذّر مستقبلاً، إذا تم انتخاب نتنياهو مرة سادسة، وربما سابعة، طالما أن الآليات الديمقراطية تنتج أحياناً دكتاتوراً يرطن بالعبرية.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي