عن جنرالين لم يُصابا بالجنون

عن جنرالين لم يُصابا بالجنون

12 مارس 2024

غادي إيزنكوت (يمين) ويتسحاق أبريك

+ الخط -

تقوم هذه المقاربة المؤسسة على فرضيتين موضوعيتين مستمدتين من وقائع حرب الإبادة على غزة، وتتعزز واقعية طرحها بجملة طويلة من مشاهد ومعطياتٍ لا حصر لها. الفرضية الأولى ماثلة في صدر الصفحة الاستهلالية الموجزة من كتاب هذه الحرب التي بدأت وانتهت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، محقّقة نتائج عميقة الغوْر، محفورة في الوعي، أحسب أنها لن تسقط من الذاكرة مهما عربدت دولة الاحتلال النازي، وتوحّشت آلتها التدميرية، إذ يستحيل التغطية على الفشل الأمني الذريع بقتل الأطفال، وتنعدم القدرة الذاتية في التستّر على هزيمة استراتيجية مدويّة بتعميم الدمار.
الفرضية الثانية مكتوبةٌ بالخط الأحمر العريض على الحائط الشاهق، ملخّصها أن حالة من الجنون المُطبق قد أصابت القوم فجأة، استبدّت بهم الهواجس الوجودية المرعبة، الأمر الذي دفعهم زرافاتٍ ووحدانا إلى المصحّة العقلية، تجلّى ذلك في مظاهر مرئية بالعين، وتواترت حكاياتُه على الألسنة، في مقدّمتها كل هذا العماء الاستراتيجي، وهذا الهوس الجامح بالانتقام إلى حدّ الإبادة، ناهيك عن السيْل العارم من المواقف العدمية والتصريحات الهاذية عن الوحوش البشرية، وعن لا أبرياء في غزّة، وعن التهجير القسري واستخدام القنبلة النووية.
وسط هذه الحالة الهستيرية الطامّة، لاح بين قطيع الخراف كبْشان سمينان، في هيئة جنراليْن مدجّجين بالنياشين والأوسمة، لم يصبهما الجنون، ولم يفقدا "المعقولية"، فراح كل منهما يهزّ الجرس حول عنقه الغليظ للفت انتباه راعي الغنم، ويُصدر الثغاء المكتوم بصوتٍ أجش رتيب: الجنرال المتقاعد يتسحاق أبريك، المكنّى "جنرال الغضب"، وعضو حكومة الحرب، غادي إيزنكوت، الذي سبق له أن بلغ رتبة العسكري رقم واحد في جيش الاحتلال وتسلّم رئاسة هيئة الأركان. طفق الاثنان في غذّ السير عكس الاتجاه السائد، يكذّبان الناطق العسكري، ويُطلقان التحذيرات العلنية من مغبّة هزيمةٍ ترتسم في الأفق.
قد تكون هناك بعض الخراف غير السمينة متواريةً، في الجيش والأكاديميا والإعلام، مثل الجنرال الذي قال إنه لولا الجسر الجوي الأميركي لوجدنا أنفسنا، بعد عشرة أيام من القتال، نحارب بالعصيّ والحجارة. وأيضاً مثل الكاتب الشهير في "هآرتس" الذي كتب، بعد نحو شهر من الحرب، أن الفريق الذي خسر المباراة يوم 7 أكتوبر يرفض مغادرة الملعب، ويطالب حكم الساحة بتمديد الوقت إلى أجلٍ غير مسمّى، إلا أن الجنراليْن أبريك وإيزنكوت يظلان العسكريين الأعلى صوتاً في غمرة حالة الجنون المستشرية في صفوف قادة القلعة التي أُخذت يوم طوفان الأقصى أخذة عزيزٍ مقتدر.
بين فيضٍ هائلٍ من المواقف التحذيرية التي أطلقها الجنرال أبريك (شغل منصب مفوض شكاوى الجنود) يمكن التقاط تحذيره المبكّر بحقيقة أن جيش الاحتلال غير جاهز للحرب، وأن الفوضى تسود أوساطه، وأن عشرات الآليات المعطّلة في الميدان لم يتم سحبها، والصورة التي يقدّمها الناطق باسم الجيش زائفة. وقال إنه يستحيل القضاء لا على قوات المقاومة ولا على أنفاقها الممتدّة على طول قطاع غزّة وعرضه. وتحدّث عن الغرور القاتل، عن الكذب والمزاعم والتقديرات الخاطئة، وسرد الكثير عن التضليل وخداع النفس، وما إلى ذلك من عوامل الضعف المُفضية، بالضرورة، إلى خسائر وانتكاساتٍ متتالية.
يطالب الجنرال الآخر، صاحب الصوت الناشز في جوقة المنشدين بأغنيه النصر الحاسم في أطول حربٍ تخوضها القبيلة العبرانية منذ زمن يوشع بن نون، شيخ مشايخ القبيلة (نتنياهو) وسائر سدَنتها الحالمين بإعادة احتلال غزّة واستيطانها، بالتوقّف عن الكذب على النفس وخداع الجمهور، والكفّ عن السيْر بعماء بصر وبصيرة نحو الخسارة المحقّقة، والذهاب من ثمّة إلى عقد صفقة كبيرة تعيد المختطفين أحياءً، كون ذلك هو النصر المشتهى، أو باعتباره صورة النصر التي يعجز الجيش عن تحقيقها، حتى بعد أن دخلت الحرب الانتقامية المجنونة شهرها السادس.
خلاصة القول ومنتهاه، أولاً، إنّ "طوفان الأقصى" هو أمّ الحقائق الكبرى في هذه المرحلة، لن تحجب شمسَها الساطعة مقتلة الأطفال والنساء بالجملة، ولا مشاهد الدمار غير المسبوقة في العصور الحديثة، كما لن تُطوى صفحتها المحفورة، بالشاكوش والإزميل، في الذاكرة الجمعية لكلا الطرفين المتحاربيْن. وثانياً إنّ إسرائيل المذعورة المنبوذة المجرمة أصيبت بالجنون، رغم مظاهر الفجور والغرور والعربدة، وهذه مجرّد تعبيراتٍ صارخةٍ عن الذعر في النفوس الآثمة، عن الخوف من عقابيل الخطيئة التأسيسيّة الأولى.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي