طقوس وأديان

طقوس وأديان

10 مارس 2019
+ الخط -
ربما كان الغرب محقًا عندما نحّى المؤسسة الدينية عن الخوض في مجالات السياسة، لأن الدين قائم على الإيمان المطلق والتسليم، في حين أنّ السياسة قائمة على المراوغة والأخذ والرد.
اليوم في زماننا العربي، بدأنا نذوق ويلات التلاعب بأمور الفتوى والدين وزجّها في أغراض سياسية أو دنيوية بحتة.
ستقولون لي: لكن الدين الإسلامي ليس فيه مؤسسة دينية. أقول أعرف ذلك، لكن لا تنسوا أنكم تتحدّثون هنا عن الدين الإسلامي، وليس عن المسلمين! وبالذات مسلمي هذا العصر. وسيقول قائل: وكأنك تفصل بين الإسلام كدين وبين "تصرفات" المسلمين؟ لأجيب: نعم، وأتساءل: هل تصرفات المسلمين أو ممارساتهم "الدينية" تمثل الدين الإسلامي؟ أم أنها تمثّل ما فهموه أو بالأصح ما أرادوا أن يفهموه من الإسلام؟
تلفتوا حولكم، ستجدوا أن المسلمين قد انقسموا إلى عدة طوائف وتيارات، وكل واحدة منها ترى أنها على الإسلام والطريق البيّن، في حين غيرها من التيارات والطوائف في ضلال! فأي نسخة من تصرف هذه الطوائف يمكننا أن نقول هي الإسلام؟
خصوصًا، أن حديث الفرقة الناجية يطوف حول الرؤوس، وكل طائفة تتمسك بأنها الفرقة الناجية، وما سواها غير ذلك.
قبل أن أجيب دعوني أطوف على التصرفات التي نقوم بها كمسلمين وعلاقة ذلك بالأديان السابقة.
في الأديان السابقة، السماوية خصوصًا، جاءت التعاليم للأقوام المنوطين بالرسالة آنذاك من يهود ومسيحيين، وكانت طبقة الكهنة الموروثة من أديان ووثنيات سابقة تقوم بالدور الذي كانت تقوم به سابقًا، فمسخت تلك الشعائر السماوية القديمة وحولتها إلى طقوس لا روح فيها، ومنْ ينكر أن المسيحية انحرفت عن مسارها التوحيدي باتباعها تعاليم بولس التي استمدها من الفلسفات القديمة والديانات الوثنية، فأدخل في النصرانية تأليه المسيح وعقيدة التثليث وأفكار الصلب والفداء والتعميد، إلى غير ذلك من العقائد، وساعده على ذلك اعتناق الإمبراطور قسطنطين للنصرانية، فمنح بولس وأتباعه حرية العبادة، وبالذات بعد المجمع الكنسي الأول الذي عرف بمجمع نيقية عام 325م، الذي تبنى كل تلك الأفكار بشكل رسمي.
هنا تحولت كل تلك الشعائر بتضعضع العقائد إلى طقوس ميتة تُمارس على أنها من الدين في شكلها الخارجي كعبادات، لكنها في حقيقتها طقوس لا تزيد عن تمرينات رياضية! وسنجد ذلك في اليهودية بما لا يتسع المجال الخوض فيه.
طبعاً ليس العيب في الأديان، بل العيب في المؤسسة الدينية التي أفرغت الدين من محتواه، وصحيح أنها حافظت على "مظاهر" الدين في هيئة طقوس، لكنها أفرغتها من جوهر الدين الحقيقي.
اليوم، يقع المسلمون في مثل هذا الأمر ولو بشكل متدرج، لقد اهتممنا بمظاهر الدين "كطقوس" نمارسها ونحرص على ممارستها، وكأن تلك "الشعائر" مقصودة لذاتها وليس لما تهذب في المسلم من سلوك؛ فنجد أنّ المسلمين في زماننا يبالغون بالاعتناء في إطلاق اللحية وتقصير الثوب والسواك والمحافظة على الفروض والنوافل والقربات، لكن هل يمارسها المسلمون كتعبّد وشعائر أم يمارسونها كطقوس؟ ستقولون لي: لا يعلم بالنيات إلا الله، وليس لك أن تحاسب المسلمين على نياتهم! أتفق معكم تمامًا، بل وأزيد أني لا أرى أي سلطة "دينية" لأحد على أحد إلا ما جاء بنص شريف، لكني أدعوكم لتطرحوا تساؤلًا على أنفسكم، هل أثّرت تلك الممارسات في سلوك الناس؟ وهل حسّنت أداءهم؟ لقد أصبحت الصلاة عادة والصوم جِلادة! أداء بلا روح، فلم يؤثر هذا الأداء في سلوك الفرد أو المجتمع؛ فهو المصلي في الصف الأول لكنه المرتشي في وظيفته! وهو الصائم القائم في رمضان لكنه الآكل لأموال اليتامى من أقربائه! فهو المتناقض بين مظهره التديني وتصرفه الدنيوي، وأنا لا أعمم طبعا لأن التعميم مرفوض عقلًا ونقلًا؛ فهناك في كل زمان المتدينون الحقيقيون الذين لا تشوبهم شائبة، لكني أرصد ظاهرة موجودة اليوم في عالمنا الإسلامي، ظاهرة الفصل بين سلوكيات التدين وسلوكيات الحياة، وهي ظاهرة يمارسها المسلمون، لا أدري بقصد أم بدون قصد، على اعتبار أن ذلك هو التدين.
نعود إلى السؤال المطروح في البداية: أي نسخة من تصرف هذه الطوائف هي الإسلام؟
أجتهد وأجيب قائلا: إن كل أعمال تلك الطوائف والتيارات لا تمثل الإسلام تمامًا، بل تمثل ما وصلت إليه درجة اجتهاداتهم، فلا تدّعي فرقة ما أنها على الحقيقة المطلقة وتمثل الدين الإسلامي في ديماغوجية غريبة. أما عن عدم وجود مؤسسة دينية في الإسلام بحيث نفصلها عن السياسة، أقول هذه المؤسسة غير موجودة حقيقة في الإسلام، لكنها موجودة في المسلمين عن طريق هذه التيارات والطوائف التي تنصّب كل واحدة من نفسها كمؤسسة دينية!
المسلم غير المنتمي لأي تيار من هذه التيارات هو أكثر المسلمين انشراحاً في الصدر لبقية المسلمين من حوله؛ فهو لا يحمل عليهم أي "ضغينة" أو كره بسبب الاختلاف، وهناك منْ يحملون هذا القلب السليم داخل تلك التيارات الذين انتموا إليها بحسن النية على أنها سبيل لخدمة الإسلام والمسلمين!
أخيراً، حديث الفرقة الناجية، فلماذا نُصرّ على أنه في زماننا؟ وهل يجب أن تكون هذه الفرق المنقسمة هي فرقنا الدينية اليوم؟ أترك إجابات هذه الاسئلة للمتخصصين من أهل مصطلح الحديث.
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري