تونس.. الحكومة في ملعب الرئيس

تونس.. الحكومة في ملعب الرئيس

30 أكتوبر 2019
+ الخط -
تعيش الساحة السياسية التونسية مخاضا صعبا أمام تشكيل الحكومة الجديدة، نتيجة الشروط المتباينة لمختلف أطياف البرلمان الجديد، ما جعل المتابعين يجمعون على أن المؤشرات الأولية للتفاوض التي برزت بين حركة النهضة وبقية الأحزاب ذات الحضور المؤثر تكشف عن صعوبة مؤكدة لتشكيل الحكومة، وفق مقتضيات الدستور، فـ"النهضة" المخوّلة دستوريا لتشكيل الحكومة تجد نفسها أمام ما حصلت عليه من نتائج (52 مقعدا) مجبرةً على فتح مجالات التشاور والتفاوض مع مكونات حزبية أخرى، على غرار حركة الشعب والتيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وتحيا تونس، بل حتى مع قلب تونس الذي أعلنت مسبقا أنها لن تشترك معه في تشكيل الحكومة، نظرا لشبهة الفساد كما تقول. ناهيك عن الحزب الحر الدستوري الذي تعتبره فاشيا لا يمكن الحوار معه.
أمام انسداد أفق التشاور والخوف من إعادة الانتخابات، وقد أصبح يراها بعضهم مثل الحزب الشعبي الجمهوري خيارا ممكنا، يبدو أن رئيس الجمهورية الجديد قيس سعيد قد عزم على أن يأخذ الأمر بيديه، ويبادر إلى لقاءات ماراثونية مع زعماء الأحزاب والشخصيات المستقلة المؤثرة في البرلمان، من أجل إطلاق مسار يجنب البلاد كلفة إعادة الانتخابات، والمضي في طريق المجهول. وقد شملت هذه اللقاءات رئيسي حركة النهضة وحزب قلب تونس والأمين العام لحركة تحيا تونس وقادة أحزاب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة المحافظ، وقد تتعدى
لقاءات الرئيس الأحزاب، لتشمل أيضا القائمين على المنظمات الوطنية، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل. وتفيد تسريبات بأن الرئيس دعا هؤلاء الذين التقاهم إلى ضرورة الإسراع بإجراء حوار بينهم يتوّج بصياغة برنامج للحكومة القادمة على أن تكون الأخيرة حكومة كفاءاتٍ لا محاصصة حزبية، وفي إطار الالتزام الكامل بمقتضيات الدستور. وفيما رشح من أخبار ومتابعات، يبدو أن الرئيس يمضي بهذه المشاورات باتجاه تشكيل مبادرة رئاسية تتوّج بما أطلق عليه "حكومة الرئيس"، وهذا مقترح لحركة الشعب طبقا للمادة 89 من الدستور، والتي تنص على أن يضطلع رئيس الجمهورية بتكليف شخصية، سياسية ومستقلة وتحظى بالإجماع، بتشكيل الحكومة أمام مؤشرات انسداد أفق تشكيلها.
لقد أعطت المادة الدستورية هذه مجالا رحبا لرئيس الجمهورية للقيام بهذه المشاورات، ومكّنته من المبادرة باتخاذ ما يراه لازما أمام صعوبة توصل الحزب الفائز من تشكيل الحكومة. ومن الواضح أن الرئيس قيس سعيد قد استبق الأحداث أمام ما أعلنته بقية الأحزاب من شروطٍ، تراها حركة النهضة مجحفة، وقد تصل إلى الابتزاز من أجل المشاركة في حكومة ائتلافية. في مقدمها التيار الديمقراطي الذي يشترط تمكينه من ثلاث وزارات، الداخلية والعدل والإصلاح الإداري. كما استشعر الرئيس حالة العزلة التي تمر بها حركة النهضة المكلَفة بتشكيل الفريق الحكومي، وخصوصا أنها لم تتمكّن من الفوز الكافي الذي يمكّنها من مباشرة تشكيل حكومة في ظروف سهلة. ولم تستبعد مصادر مطلعة في هذا السياق أن يكون زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، قد طلب العون من رئيس الجمهورية، للدفع بالحوار من أجل الخروج من عنق الزجاجة، مستغلا في ذلك الشرعية الشعبية التي حظي بها الرئيس، وأصبحت تشكل له حزاما سياسيا قويا. وتفسر هذه المصادر قولها بأن "النهضة" بادرت إلى تقديم تنازلات، وأهمها التخلي عن رئاسة الحكومة، على الرغم من أنه حقها الدستوري ومحل إجماع من مجلس شورى الحركة. وتمضي هذه المصادر في اعتبار هذا المسعى ذكاء استراتيجيا من الحركة، تستبق به فشلها في تشكيل الحكومة في الآجال التي حدّدها الدستور، وتتجنب به إمكانية إعادة الانتخابات التشريعية التي قد تكلفها خسارة مقاعد أخرى.
على المستوى السياسي، تؤشّر مبادرة رئيس الجمهورية التي تدفع إلى الإسراع بتشكيل الحكومة الجديدة إلى تأكيد المكانة الاعتبارية له، لدى الطيف السياسي رئيسا مجمَعا عليه من كل التونسيين، من خلال تعميق الحوار بين ألوان هذا الطيف، إعلاء للمصلحة العامة للبلاد. وتذليلا لكل الصعوبات التي قد تحول دون ذلك، فقد أعلن، في خطاب تنصيبه يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أنه الضامن لوحدة الدولة والحامي للدستور، خصوصا وهو المستقل عن كل التشكيلات السياسية، والآخذ المسافة نفسها منها جميعا. وفي هذا السياق، ثمّنت قيادات حزبية مبادرة الرئيس، معتبرة إياها رافعة للحرج، فيما قد يفسر تحالفا مع حركة النهضة. وفي ذلك أيضا إنقاذ للبرلمان من التشتت والتشرذم وللبلاد كذلك من سيناريو إعادة الانتخابات. يضاف إلى ذلك ما يتمتع به قيس سعيد من دعم شعبي قوي (72.7 % من أصوات الناخبين) يعزّز دوره في تسهيل مشاورات تشكيل الحكومة.
وبعيدا عن هذه المشاورات التي يقوم بها الرئيس، يعد الإسراع بتشكيل الحكومة الجديدة أمرا بالغ الأهمية في علاقة بالسياقات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، ذلك أن حالة الفوضى وإعادة تشكل 
خرائط السلطة والقوة والنفوذ من خلال السياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، وما يعاني منه الاتحاد الأوروبي من انقسام داخلي غير مسبوق، خصوصا مع انسحاب بريطانيا منه، وتعمق أزماته الداخلية، وتشتت رؤيته الخارجية، وإعادة النظر في علاقاته مع دول الجنوب، بسبب سياساته الداخلية في معالجة ملفات الهجرة من زاوية نظر أسّست لها الأحزاب اليمينية المتطرّفة الصاعدة، علاوة على ما تشهده المنطقة المغاربية من صراعاتٍ وانقسامات في ليبيا، وعراقيل التحوّل الديمقراطي الممتنع جزائريا منذ أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988... كلها عوامل من شأنها التأثير المباشر في الراهن التونسي، ما يقتضي الإسراع بتشكيل الحكومة الجديدة التي ستباشر حزمةً من الالتزامات الحادّة، في مقدمتها متابعة الإصلاحات التي أقرّتها الحكومات السابقة، وشدّد عليها صندوق النقد الدولي، في إطار تسهيل المدد والمتعلقة أساسا بالتخفيض في الدين العمومي، وتقليص حجم الأجور وتقليص التضخم ودعم الطاقة الشرائية مع التحكّم في عجز الميزانية والميزان التجاري ومباشرة مجال التهرّب الضريبي، بهدف تكريس العدالة الجبائية، فضلا عن دفع عجلة النمو ومعالجة مجمل الملفات الاقتصادية والاجتماعية الحارقة...
المؤمل إذن ألا تطفو على السطح عوائق غير متوقعة، من شأنها أن تعطل إنجاح مشاورات الرئيس. ذلك أن العنصر الحاسم في قيام الحكومة الجديدة يتمثل في حصولها على الثقة التي ستكون حتما بيد نواب الشعب. وفيما يُشار إلى أن سيناريو حكومة الرئيس هو اقتراح من حركة الشعب فقط، فإن هذا العنوان لا معنى له بغياب برنامج إنقاذ للبلاد، تشترك في بلورته كل الأطياف السياسية الممثَلة في مجلس النواب مع الكفاءات الأخرى الموجودة خارجه، أو المكونة حاليا لحكومة يوسف الشاهد التي تحسب لها نجاحاتٌ عديدة لوزرائها، على غرار وزراء التربية حاتم بن سالم والشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي والشؤون الثقافية محمد زين العابدين والداخلية هشام الفوراتي، على أن يكون هذا البرنامج قابلا للتنفيذ فورا على صعيد الواقع التونسي الراهن الذي لم يعد يتحمّل مزيدا من الانتظار والترقب.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي