هذه الأجسادُ يجب احترامها

هذه الأجسادُ يجب احترامها

14 أكتوبر 2019

(صفوان داحول)

+ الخط -
من الجليّ في زمان مولد الفكرة والصّفة ومكانه أنّ النّسوية لا تعني وقوف المرأة ضدّ الرّجل. ولكنها، في مجتمعاتنا، لا تمثّل سوى مقابلٍ حرفي وعنيف للهيمنة الذُّكورية؛ حيث تمّ تحويرها لتُطلق صفةً قدحيةً على نساء يُطالبن بحقوقهنّ، من دون أن يعني ذلك أنّهن ضد الرّجل؛ بقدر ما يعني أنّهن ضد المجتمع الذّكوري الذي يسحق المرأة، ويخنق الرّجل، ضدّ الفكر الاستحواذي الذي يجعل الرّجل أعلى درجةً من المرأة في سلّم الإنسانية؛ ويُنزلها إلى مرتبةٍ أشبه بمقام "الجارية" التي وُجدت للخدمة، والإنجاب، والإمتاع، أيّام العبودية. ولكنّهن حتمًا لسن ضد الرّجل، بل هناك رجال كثيرون يحملون الصفة، باعتبارهم يناصرون حقوق المرأة، بشكل لا يقلُّ عن النّساء.
ويغيبُ عن أذهان معظم منتقدي المفهوم أن النّسوية ليست نعتًا، بل حركة اجتماعية المقصود بها الدّفاع عن المرأة تجاه السّلوك الذكوري الإقصائي أو التّحجيمي لدورها في المجتمع، لا غير، ولم تضع ضمن أجندتها محاربة الرّجل، بل السّعي إلى نزع احترام المرأة، ما دام المجتمع قد أنكره، وبما أنّ الحقوق في حتمية التّاريخ تُؤخذ ولا تُعطى، بينما "الفمينست" الرّاديكالية المتطرّفة شيء آخر مقابل للسّيطرة الذكورية، من باب تطرّفٍ بتطرّف، وليس معيارًا لقياس أو وصم النّساء اللّواتي يناضلن من أجل مجتمع صحّي، تقف فيه المرأة إلى جانب الرّجل.
من بين نماذج الكاتبات الفيمنيست في الغرب، تبرز أسماء سوزان سونتاغ، جوديث باتلر، جيرمين غرير، أليس شوارزر، بالإضافة إلى النّسوية الأشهر سيمون دي بوفوار، وغيرهنّ من الكاتبات اللّواتي على عكس معظم كاتباتنا، لم يجدن في الكتابة في مجال آخر سببًا لئلا يكتبن عن وضع المرأة في المجتمع الذي يعشن فيه. ونتيجة ذلك، تراكم عددٌ هائل من الكتابات التي واكبت تغيّر وضع المرأة في المجتمعات الغربية.
من الجهة الأخرى، نجد نماذج للفيمينست الرّاديكالية الإقصائية التي ترى في الجنس الآخر عدوًا، يجب كسره وتضييق الخناق حوله، منها الكاتبة الأميركية فاليري سوناس، التي اشتهر 
لها كتاب واحد في حياتها، "S.C.U.M Manifesto"، وكانت تقول: "الرّجال طفرة طفيلية، يجب القضاء عليها وعلى المجتمع الأبوي". وبإلقاء نظرة خاطفة على حياة فاليري نعرف مصدر العنف، والرّغبة في إلغاء الآخر، وتحريم أي علاقة معه، الجنسية بالخصوص، حيث عاشت فاليري حياتها الجنسية مع مثيلاتها النّساء.
تعرّضت فاليري للاعتداء الجنسي من والدها الذي اضطرّت للعيش معه، بعد انفصاله عن والدتها، ثم تنقّلت بين منازل مختلفة في عائلتها، إلى أن أصبحت مشرّدة في سن الخامسة عشرة. ومع أنّها أكملت دراستها الجامعية في علم النّفس، إلّا أنّها اشتغلت بالتسوّل والدّعارة في نيويورك، وكتبت عملين، أحدهما مسرحية "داخل مؤخرتك"، عن بائعة هوى صغيرة تمقت الرّجال، إلى درجة أنّها قتلت أحدهم لاحقًا، وهي المسرحية التي وعدها المصور الأميركي، آندي وارهول، بإنتاجها، وأخلف وعده، لتُطلق عليه فاليري النّار بنيّة القتل.
مهنة فاليري الوحيدة كانت الدّعارة، قبل أن تدخل عالم الكتابة، بأفكارها المتطرّفة. إنّها نموذج من النّساء اللواتي عانين من هوّية جنسية مضطربة، لا تحيل إلى تداخل النّوع الجنسي لديها، بقدر ما تشير إلى اضطراب نظرتها إلى الجنس الآخر الذي تجده مصدر تهديد للمرأة، والحل هو الإقصاء، هو الإخصاء. إنّها النّظرة نفسها التي يواجه بها المنطق الذُّكوري المرأة، الإقصاء من المشهد العام، والإخصاء الذي يقابله الاستغلال الجنسي للجسد، أو الإخفاء الكامل له من 
المجال العام. إنّه قلق ذكوري تجاه جسد المرأة، يواجه قلق النّسوية المتطرّفة من الانتصاب الرمزي للذّكر، والشّعور المحتمل بالتفوق الذكوري النّاتج عنه.
عندما قرأت لسيمون دي بوفوار، عن عقدة الذكر التي تكتشفها المرأة، اندهشت. هذا شعور لم نكتشفه نحن، ولم أقرأ عنه عند كاتبة عربية، ما السّبب؟ هل هو الموروث الدّيني الذي يجعلنا نرضى بالقسمة والنّصيب حتى في الجسد الذي وُلدنا به، والعضو التّناسلي الذي نعلق معه؟ أو هو اقتناع جنسي عميق بالهوّية الجنسية، والجسد الذي نمشي به على الأرض، وننظر منه إلى الآخر؟ أو أنّ محاولة الرجل توحيد النّظرة نحو الجسد الأنثوي شغل المرأة عن التفكير فيما تفتقده في هذا الجسد الذي يتمركز الصّراع المجتمعي في أقصى مظاهره، حوله.
إذا عدنا إلى أشهر الكاتبات النّسويات العربيات، فاطمة المرنيسي التي هي أكثر من كتب عن المرأة، وأبرز من اعتُبرت كتاباتها إضافاتٍ أحدثت تراكمًا في دراسة وضعية المرأة في وقت حرج، نجد أنّها لم تتحدّث عن هذه النّقطة، ولم تذهب إلى أعمق من التوتّر الظاهر لعلاقة الرّجل والمرأة، والصّراع على الفضاء العام والخاص بينهما، ولم تصل إلى مستوى التّحليل الجنساني للصّراع، وتجلّياته، وجذوره التّاريخية التي لم تتجاوز عندها فترة الحكم الإسلامي للمنطقة العربية، على عكس رائدات هذه الكتابة في الغرب، اللّواتي سافرن في الزّمن والمكان،
 والتاريخ والفلسفة. وربما انشغالها بالبُعد الاجتماعي، وموقف الدين تجاه المرأة، كانا السّبب في ذلك.
بينما نجد نوال السعداوي المرأة التي أطلقت النار، وأحدثت الصّدمة لدى المجتمعات العربية الذّكورية مبكرًا، والتي لم تنجح في أن تكون روائية ذات تأثير أدبي، لكنّها نجحت في إيجاد صورة المُقاتلة بشراسة عن المرأة، من دون أقنعة أو تنازلات أو تلميحات، ما تراه وما تفكّر به قذفته مباشرة في وجه مجتمعاتٍ عربيةٍ شديدة المحافظة، وعميقة الجذور الذّكورية التي لا تقبل بأقلّ حديثٍ عن حقوق سطحية للمرأة، عدا عن كلّ ما شكّكت فيه السعداوي من ثوابت دينية تخدم الرّجل، وتؤبّد المرأة في أدوار خدمة الرّجل وكثرة نسل الأمة. ولكنّها فضّلت إحداث الصّدمة التي هزّت الفكر الذّكوري، ولم تذهب إلى أبعد أو أعمق، لتترك لنا دراسات تحدث تراكمًا معرفيًا عن المسألة النّسوية، مثلما فعلت فاطمة المرنيسي ولو بشكل غير مكتمل، يحتاج إلى خطواتٍ على إثره لتعميقه، ومنحه أبعادًا أخرى. ولكن يحسب لها دورها الميداني، والمخلخل لمسلّمات كثيرة، والذي كنا بحاجة ماسّة إليه، نحن النّساء اللواتي جئن بعدها، ووجدنا الطريق سالكة، على مستوى وعي المجتمع بالمسألة النّسوية، ولو أنّه بقي مقاومًا لها، لكنّه على الأقل سمع بها، وأصبح أقل تزمّتًا تجاهها.
لم تنكر الفيلسوفة الأميركية المعاصرة والأشهر من بنات جنسها، جوديث باتلر، همّ المرأة، فحملته إلى جانب همّ الانسان العام خارج الجنس والتّصنيف، خصوصا في كتابها "هذه الأجساد التي يجب اعتبارها". وفي كتابها عن الجندرية، تكتب إنّ "كون الأنثى أنثى لا يعني أنّها بالضّرورة امرأة، لأنّ الصّفة الأولى معطى مادي، والثانية منتوج ثقافي". في مقاربة لمقولة سيمون دي بوفوار إنّ "المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك".
تحكي دي بوفوار، في مذكراتها، كيف طغى عليها الشّعور بالقلق من أن تجد نفسها يومًا وقد "قهرتها الحياة". وكانت هذه الشّكوك تثير جنونها، لكنّها كانت تكفكف دموعها، وتردّد مقولة هاين "مهما كانت الدّموع التي يذرفها المرء، سينتهي به الأمر إلى أن يتمخّط". ضيقٌ كبير نحو ما تعيش فيه، كان يُشعرها بالقهر، ويخيفها من المستقبل. وربما هذا الضّيق هو الذي صنع منها المرأة التي كانت، المرأة التي حفرت في معنى الأنوثة، بحثًا عن إجاباتٍ لم توجد قبلها.
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج