عشرة أسباب لعدم مشاهدة فيلم بالأبيض والأسود

عشرة أسباب لعدم مشاهدة فيلم بالأبيض والأسود

08 مارس 2024

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

تخيّل، يا فرويد، وضعَ مُشاهدٍ من هذا الزمان، الذي يظنّ فيه أنه فهم كل شيء، وأنه بلغ قدَراً من العلم لم يصل إليه السّابقون، جالس أمام حاسوبه غالباً، وأمام التلفزيون أحياناً، وفي قاعة سينما نادراً، يشاهد فيلماً بالأبيض والأسود. يجد نفسَه أمام عالم آخر، التفكير فيه منطقي أكثر مما هو الآن، لكن الشّخصيات، يا صديقي، غريبة مظهراً وسلوكاً. هل رأيتَ الملابس؟ يا إلهي على الملابس! لا أستطيع التركيز في الأحداث، والرجال يرتدون سراويلهم إلى ما فوق الخصر. لكن لحظة، أنت أيضاً عشتَ في ذلك الزمن، فكيف ترى الشذوذ في ذلك؟

لحسن حظك، أنه لا يمكن مقارنة سراويلكم مع تلك الضّيقة للعصر الفيكتوري، التي تُحوّل الرّجل من هيئة الجنتلمان إلى هيئة الشباب المتسكّع الحالية، التي ساهم في إبرازها مصمّمو البذلات الرياضية الضيّقة، ذات النقوش المتشابهة، لا سامحهم الله. مع تسريحة شعرٍ لا هي بهيئة الدجاج ولا السناجب، ولا القنافذ، ربما هي شيءٌ بين ذلك كله.

لكن الحقّ يقال، للرجال هناك هيئة بدنية محترمة، تذكّرني بطلبة الجامعات في التسعينيات. أما النساء، فهنّ كالعادة، إلى حد الثمانينيات، في منتهى الأناقة، حتى لو كانت هذه الأناقة عذاباً كاملاً. طبعاً لن نقارنها بعذاب الفساتين ذات أكياس الطّحين والمشدّات، التي كان عليهن العمل بها في الحقول وفي البيوت، قبل الحرب العالمية الأولى، والعزيزة كوكو شانيل، التي حرّرتهن منها. لكن الموضة استبدلتها بالأحذية العالية، في العمل والبيت والشوارع ... والملابس شديدة الأناقة، والتكلّف، إلى درجة التعذيب.

تخيّل كم يلزم إحداهن لتجهز نفسها للخروج؟ ورغم فقر الواحدة منهن لها خزانة ملابس لن تجدها الآن عند الثّريات. وبهذه الأناقة تدخُل إلى المطبخ. وتنام بلَوالب الشّعر حول رأسها، ليُضاف عذابُ الليل إلى عذاب النهار.

البيوت على عكس ذلك، مريحةٌ أكثر مما يجب. مرتّبة جدّاً ولا شيء شخصيا فيها، سوى صورة بجانب السرير لصاحبها، أو لقريبٍ له. لعلّ الممتلكات الشخصية مُبالغ فيها، لمن لم يكن بيته محمّلا بالأشياء والكتب، والأغراض التي تبدو لا غنى عنها، مثل بيتي، فهي مجرّد عراقيل تمتصّ الأوكسجين، والهدوء النفسي، بالنسبة له. مع ذلك، للأشياء سحرها وحميميتها.

طبعا لا نرى الكثير من بيوت الفقراء، فالأفلام مصنوعة لشخصياتٍ روائيةٍ لافتة لها مشكلات مختلفة، مثيرة للاهتمام، ليست كمشكلات الفقراء التي تتكرّر، الطعام والسكن والبطالة والتعليم... إلخ إلخ، التي غرقت فيها السينما في العقود التالية.

البطء في الحديث، والمشي، أكثر ما يغيظان في سينما الأبيض والأسود لإنسانِ ما بعد الاضطرابات العصبية، والهيستيريا الجماعية، والقلق المرضي لكل البشر على الأرض، التي جعلتهم يركضون كالفئران في عجلة، ويتحدّثون كأنّهم في سباق عُصابي في مشفى المجانين. انظروا فيديوهات يوتيوب وإنستغرام، يا للهول، يا هتشكوك، يا لطيفَ الرّعب أنت. أحدُنا يعيد تشغيل أذنيه وعينيه مرّات، لفهم ما يحدُث ورؤيته، وإعادة مشاهدة المقطع منها مرّات ليفهم المعنى.

نحتاج رحلاتٍ منتظمة إليك، يا عالم الأبيض والأسود، لكن الاختلاف في النمط العقلي، الهدوء المبالغ فيه لشخصياتك يصيبان أحدَنا بسوء الهضم. هناك استثناءات، لكنها تقع في محاذير أخرى. مثل الطيبة منتشرة، إلّا بعض الأشرار الذين يرى الأعمى شرّهم، فلا مجال للشر الخفي. ولبكاء النساء صوت دوماً، وهو مفتعل إلى درجة تشعرك بأنّ أحدهم ركلك خارج الفيلم. مع ذلك، الرّومانسية في هذه الأفلام حقيقية، تلتقي فيها شفاه الممثلين بصدق أول قبلة، عكس قبل الأفلام الحالية التي يبتلع فيها الممثلون وجوه بعضهم من أول وهلة.

إضافة إلى عيوب تقنية في تقديم نمطي للنساء والرجال، كحفاظ الممثلات على تسريحات شعر مثالية في مواقف يجب أن تكون فيها منفوشة كدجاجٍ هاربٍ من المجزرة. والوقفة المشدودة المبالغ فيها للرجال، كأن أحدهم مصاب بديسك في ظهره.

صادفتني هذه الملاحظات إثر مشاهدة متتالية لفيلمين: "فيرتيغو" لألفريد هتشكوك، إنتاج عام 1958، و"ميراج"، إنتاج 1965. وصارت ترافقني كلما جلستُ أمام الأبيض والأسود، فرغم الفرادة والأصالة في قصصِ ما قبل عصر الاستنساخ الحالي. لكنه كوكبٌ آخر تماماً...

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج