المسلسل الممنوع على الشاشات

المسلسل الممنوع على الشاشات

29 مارس 2024
+ الخط -

من يشاهد "الاستقرار" الدرامي للمسلسلات العربية في موسم رمضان الحالي يحلف أنه مثل باقي المواسم. ليست مسلسلات طيبة، وهذا ما اعتدنا عليه، ولكنّها أفضل من السيناريوهات الأسوأ التي لم يعد في الأفق غيرها، في هذه الفترة. وللحظة، ينسى أنه في اللّحظة نفسها من الزمان نفسه، لا تجري على قدم وساق إبادةُ شعبٍ على مرمى بصر أو مرمى بصيرة. وينسى حقيقة أنّ ما يحدث يُبكينا حد النّحيب. حتى صرنا نتجنّب الأخبار والصور، التي لم تكن صادمة قط كما هي الآن.

ثم، يفكّر: كم مسلسل يمكن أن نُنتج عن الأرض وأهلها الذين اختلطت دماؤهم بترابها؟ لنأخذ، مثالا، فيلم "قتلة زهرة القمر" الذي أُنتج قبل الحرب، ولكن عرضه تزامن معها، جعل الجميع يربط بينهما، وساعد، من دون أن يقصد، في تقوية الموقف الفلسطيني. نعم إنّها مهزلة أن نحتاج لفيلم ليُنصف شعبا قُتّل ويُقتّل تقتيلاً. إنها مصيبة أن ننتظر من صنّاع الدراما أن يخفّفوا من عارنا، بينما القادة والرؤساء والملوك والوزراء والعساكر يخذلون شعباً أعزل. لكن ما الأفضل؟ مسلسلات لمداراة العار أو مسلسلات من العار تبثّ حالياً؟

بالنّظر إلى جهود الصّهيونية في الدعاية والبروباغندا، التي لا شبيه لها، لترويج ما يسمونها المأساة اليهودية على وجه الأرض. حتى أنني أقسمت أنني لا أستطيع تحمّل فيلم أو مسلسل آخر، عن جرائم هتلر وعصبته. إذْ لم تُنتج أعمال تنتصر لمأساةٍ مثلما أُنتج عن المحرقة. لا عن مأساة العبودية، التي أحرقت حياة الملايين فترات طويلة، ولا عن جرائم الإبادة تجاه السكان الأصليين، في أميركا الشمالية، ولا عن وحشية الفايكينغ تجاه الجيران، الذين صارت الدراما تبرر غزواتهم، ولا ما فعلته محاكم التفتيش في إسبانيا، والكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى، ولا الجرائم الأوروبية في المستعمرات...

ولأنّ الحرب بدأت قبل ثلاثة أشهر من رمضان، كان يجب أن تقوم بعض الشركات والقنوات بإنتاج مسلسلات ولو قصيرة، عن فلسطين لمواكبة الهمّ العام للمنطقة، والحدث. وهي فرصة للتذكير بتاريخ الأرض والإنسان، لمن نسي بيننا، ومواجهة صمت جهات كثيرة وتآمرها، وتلقين الأجيال الجديدة التي هالتها الحرب.

أتذكّر ما حدث معي مرّتين، وأنا أمشي في ردهات الجامعة، وأمرّ بوقفات طلابية معارضة للتطبيع، لم يشارك فيها سوى عشرات الطلبة. لكنها كانت فرصةً ليسمع بعضُهم لأول مرة عن مجريات القضية الفلسطينية. في المرّتين، سمعت طالبتين تتساءلان: ما التطبيع؟

الفنّ موقف، وإذا عجزت الجيوش والسياسيون، والناس جميعاً، فبإمكان الفن أن يُحدث الفارق بطرق كثيرة، ليست من الضروري أن تكون مباشرة. حتى في الدول المطبّعة، التي تضامنت بشكلٍ ما، سياسياً أو عبر مظلات البؤس العربي، هي فرصة لشركات الإنتاج التي تزوّد الإعلام الرسمي، أن تقدّم أعمالاً عن قصص فلسطينية، أو عن قصص محلية لها علاقة، مثل المغاربة والجزائريين والتونسيين الذين حاربوا في فلسطين، وفي جنوب لبنان، وآخرين... كما لم تقم قائمة مسلسل كهذا في دول أخرى ضد التطبيع.

يمكن مقاربة المسلسلات داخل البلاد نفسها، لا في مكان الحرب، تسهيلا لهم. عن دوافع التحاقهم بالمقاومة، وتنامي تعاطفهم، وكيف وصلوا إلى منطقة الحرب، واتباع خطّ الأحداث على الأرض، من خلال الصدى الذي يصل إلى الأهالي. وغيرها من القصص التي كانت تبعد العمل الفني عن توجه النظام السّياسي، وتواكب حاجة ماسّة لدى أهل المنطقة، في مشاهدة دراما لها علاقة بما يحدُث، غير التي لم يعودوا قادرين على متابعتها في الأخبار. رغم أن سرد قصصٍ من الحاضر أكثر جدوى وأقوى أثرا.

ليستمرّ مسلسل الجبن الرّسمي وغير الرّسمي، ما دام الذين يستطيعون إحداث فارقٍ لا يعنيهم ذلك. ولعلهم سيتحجّجون بـ"الإرادة السياسية" مثل كل شخصٍ مسؤول أو أيّ فرد له القدرة على إحداث ولو تغييرا بسيطا. بمعنى انتظار أمرٍ من أعلى السلطات لفعل أي شيء. وفي انتظار الأمر بالمعروف الذي لن يأتي، حتى لو جاء غودو أخيراً، على السّلحفاة التي يبدو أنّه امتطاها، نبقى عراةً في منطقة العار.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج