الاعتدال والممانعة معاً

الاعتدال والممانعة معاً

12 يناير 2019
+ الخط -
نقلت صحيفة "العربي الجديد" عن أوساط مقربة من دوائر صناعة القرار المصري إنَّ القاهرة تدير اتصالاتٍ واسعة لتنظيم زيارات مسؤولين وزعماء عرب إلى دمشق ولقاء بشار الأسد، في إطار عملية إعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية. وذلك بعد إعلان الإمارات فتح سفارتها في دمشق، وبعد زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إليها، والكشف عن خطوة مماثلة مرتقبة للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز. وكان رئيس الأمن الوطني في سورية، علي المملوك، قد زار القاهرة، بعد دعوة وجَّهها إليه رئيس جهاز المخابرات العامة المصري، عباس كامل، في 22 ديسمبر/ كانون الأول، الماضي.
كيف يتمّ التغاضي عن التناقضات الكبيرة المعلنة بين ما كانت تسمّى دول الاعتدال ودول الممانعة والمقاومة؟ كيف يتغاضى نظامُ الأسد وحلفاؤه عن علاقة تلك الدول المعتدلة بإسرائيل، (لم تكن معتدلة في موقفها من تطلُّعات الشعوب العربية نحو حدّ ضروري من الكرامة والحقوق الإنسانية)، تلك العلاقات الآخذة في التطوُّر مع دولة الاحتلال الممعنة في العنصرية والاستيطان والتهويد، والتي تزايدت اعتداءاتُها على سورية وعلى لبنان، فضلا عن غزة والضفة الغربية والقدس؟ مع العلم أنَّ هذا التناقض هو السبب الرئيس الذي لطالما تشبّث به نظام الأسد وحلفاؤه، لادِّعاء الأحقيَّة في محاربة مطالب الشعب السوري بالتحرُّر من نظامٍ غير مسبوق في الحكم البوليسي الخانق. كيف يتغاضى محور الممانعة ونظام الأسد، وكيف يتمّ التغاضي، في المقابل، من محور مصر والإمارات والسعودية، عن السبب الذي مِن أجله تُجَرَّم، وتُقاطَع، قطر، لادِّعاءات التقارُب من إيران؟
الذريعة التي يسُوقها المحور الإماراتي السعودي المصري في إعادة العلاقات مع نظام الأسد هي تخفيض حجم النفوذين التركي والإيراني في سورية، ولكن تلك النظم، في الحقيقة، مدفوعة بالرغبة العميقة في إجهاض تحرُّكات الشعوب العربية نحو الخلاص من نظُم القمع والتفرّد؛ لكي لا يكون أيُّ نجاحٍ لتلك الآمال الشعبية العربية مصدر إلهام للشعوب الأخرى، ومنها الشعبُ العربي في الخليج، للمطالبة بتغييرات حقيقية تُحَسِّن حقوقهم، وتتجاوب مع تطلُّعاتهم نحو العدالة، والمشاركة السياسية.

والكلُّ يستذكر علامات القلق الكبير الذي انتاب تلك الدول بعد إطاحة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، بعد أن لم تقدِّم له الإدارةُ الأميركية السابقة الدعم، حين قدَّرت أنه لا مجال لاستبقائه، وأنّ إطاحته لن تُفضي إلى انفلات السلطة، بل إلى إمكانية إعادة إنتاج النظام، من خلال المجلس العسكري وقادة الجيش. وها هو مبارك، فعلا، يعود، مُعزَّزا مُكرَّما، ليكون شاهدا على قضية الإخوان المسلمين، والرئيس المنتخَب محمد مرسي، في موقفٍ بالغ الاستفزاز، وفي إعلانٍ سافر بانتصار الثورات المضادَّة، في ما يشبه الاعتذار له، ولحكمه، بكل ما حمل من ظلم وفساد، دفَع ملايين المصريين إلى الخروج عليه. وهكذا تعاد السيرة مع بشار الأسد، فبقدر رمزية النظام في البطش، يجري صَقْلُه وتطهيره.
ويظهر أنَّ الآخذين بهذه الطريقة في التعامُل مع الاستحقاقات الشعبية لا يعيرون كبير اهتمام لمدى نجاعتها، على المدى الطويل، أو حتى المتوسط، فلا تلتفت دول الثورات المضادة إلى الدوافع الحقيقية لتلك الثورات، وهي دوافع وفّرتها تلك النُّظُم بالاستئثار بالرأي، والثروة. كما لا تلتفت الدولُ المتقرّبة من دولة الاحتلال إلى أسباب الرفض الشعبي العربي لأيِّ من أشكال التطبيع معها، وهي أسبابٌ تتغذّى من الاحتلال وارتفاع وتائره.
وهنا يضحِّي نظامُ الممانعة في دمشق، وحليفتُه إيران، وحزب الله، بغير قليلٍ من تلك الركيزة الفعّالة، فيما يفترَض، وهي الموقف من إسرائيل، ويتركونها تتآكل، درءًا لخطرٍ أكبر، وهو الحفاظ على النظام، وكأنّ بقاءه، بحدّ ذاته، يستأهل التضحية بكلِّ ما سواه، حتى بخطابه الأبرز، داخليا، وعربيا.
وهنا السؤال: إذا كان التقارُب يزداد بين نظُم الممانعة والاعتدال، في أوج عمليات تطبيع (المعتدلة) مع دولة الاحتلال، وفي أوج استعلاء نظام الأسد على شعبه، باستقوائه بإيران الخطر الأكبر، وَفْق التصوُّرات الاستراتيجية لدول الاعتدال، فمَن المتآمر الذي لطالما استُخدِم، مِن كلا الطرفين؟ مَن العدوّ الذي لطالما حُشِد له من أجل صرف الأصوات والمطالب المُحقّة، داخليا، لدى الشعوب الخاضعة للمحورين؟ وهل يسمح هذا الانكشاف باستمرار اللعب على هذا التناقض المعلن، بعدما طفت على السطح الأبعادُ والعوامل الأكثر فاعلية، وهي هَزْمُ الشعوب، وبأسلوب الصدمة، كما حدث لدى زيارة وزيرة إسرائيلية مسجد الشيخ زايد في أبوظبي، وكما حدث حين أُعيد إنتاج صورة مبارك في المحكمة التي أصبح فيها شاهدا مسؤولا وحريصا على الأمن القومي المصري.
نعم، تختلف الدول في مساحات، وتتفق، وتتقاطع، على مصالح مشتركة. ولكن، لنرى هنا، تلك المساحة المُظلَّلة، أو المظلمة التي تقاطعوا فيها.