حماس وإيران من جديد

حماس وإيران من جديد

01 يونيو 2018

خالد مشعل وعلي خامنئي في طهران (27/5/2008/فرانس برس)

+ الخط -
أثار المديح الذي أسبغه قائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، يحيى السنوار، على حزب الله اللبناني وإيران، جدلا كثيرا بين أنصار الحركة وخصومها على السواء، خصوصا أنه أعاد موضعة حزب الله وإيران ضمن ما أسماه "محور المقاومة والممانعة". جاءت تصريحات السنوار تلك في مقابلة مع قناة الميادين الفضائية، في 21 مايو/أيار الماضي، وفيها وصف علاقات حركته مع حزب الله وإيران بـ"الممتازة للغاية"، وأنها في "أوجها وأحسن مراحلها". ولعل أشد ما أثار كثيرين من أنصار "حماس" وخصومها في آن التقريظ الذي أطلق له السنوار العنان لقوات الحرس الثوري الإيراني، ورئيس فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، خصوصا وأن قوات الحرس، وسليماني شخصيا، والغون مباشرةً في دماء السوريين، وقبل ذلك العراقيين. ولا يخفى هنا طبعا دورهم في دعم التمرّد الحوثي في اليمن.
مبدئيا، واضحٌ، كما أكد السنوار نفسه، أن إيران استأنفت دعمها الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب عز الدين القسام، بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة صيف عام 2014. ولا يجادل أحد هنا في أن دولا عربية كثيرة رمت "حماس" وقوى المقاومة الفلسطينية الأخرى عن قوس واحدة، وهم متواطئون في حصار قطاع غزة وتجويع أبنائه. ولا شك في أن "حماس" التي خسرت حاضنتها في "محور المقاومة والممانعة" مع انطلاق الثورات العربية عام 2011، من دون أن تكسب حاضنةً بديلة، خصوصا بعد الثورات المضادة، تبحث عن ركنٍ شديدٍ تأوي إليه في مواجهة إسرائيل، ومن ورائها محور عربي - فلسطيني رسمي، مسنود أميركيا وغربيا. ذلك كله مفهوم، وفي حسابات السياسة يمكن تسويغه وتبريره، فالسياسة ليست قِيَماً صلبة، بقدر ما أن فيها سيولة ومرونة، لكنها أيضا ليست مائعة كليّاً، فالميوعة التامة قد تتحول إلى عبء لا ميزة، وإلى خسائر لا إلى مصالح.
يبدو أن قيادة "حماس" الحالية في حاجة إلى من يذكّرها هنا بأن قرارها الخروج من سورية عام 2012، في عزِّ الثورة السورية الشعبية، وعلى الرغم مما قدّمه النظام الحاكم حينها 
للحركة أكثر من عقدين، إنما جاء اتساقا مع ثوابت أعلنتها هي نفسها من أنها لا يمكن لها إلا أن تقف في صف الشعوب المطالبة بحريتها. لم تكن هناك خيارات كثيرة أمام "حماس" حينها، وهي تجرّعت السمَّ بقطع تحالفها مع نظام بشار الأسد الذي قابل انتفاضة شعبه السلمية بالحديد والنار، بل إنه وسّع، حينئذ، دائرة بطشه، لتشمل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق وريفها، كما في مخيم اليرموك ومخيمَي سبينة والحسينية. ومعلومٌ أن نظام الأسد، مدعوما بإيران ومليشياتها، بما في ذلك حزب الله، أوقعوا، وما زالوا، نكبةً أخرى بفلسطينيي سورية، ومخيم اليرموك شاهد حيَّ على ذلك. مسألة أخرى تحتاج قيادة "حماس" الحالية أن تنعش بها ذاكرتها كذلك، وهي أنه ليس الضمير الجَمَعِيُّ لهذه الأمَّةِ هو من ضَلَّ، بل إن بوصلة إيران وحزب الله هي من انحرفت. لقد سقط كثيرون من قادة الحزب قتلى، ليس في ميدان المقاومة مع إسرائيل، وإنما في الأراضي السورية، متصدّين لثورة شعبها، وبغض النظر أكان الجاني إسرائيليا أم غيره. جهاد مغنية، محمد عيسى، سمير القنطار، مصطفى بدر الدين، وغيرهم كثيرون من قيادات حزب الله. ينطبق الأمر نفسه على عشراتٍ من قادة الحرس الثوري الإيراني وعناصره. ولعل أحدا لم ينس تصريحات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عام 2015: إن "طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني وحمص وحلب والسويداء والحسكة"! لقد وضع نظام الأسد وحزب الله وإيران سورية تحت الوصاية الروسية، وجعلوا منها نهبا تتنازعه واشنطن وموسكو.
عودة إلى حسابات السياسة وإكراهاتها. قطعا "حماس" بحاجة إلى توسيع دائرة حلفائها في مواجهة محاولات حصارها وخنقها، وقد قدمت إيران، من دون شك، الكثير لحركة حماس، خصوصا في الخبرات والعتاد العسكريين. أيضا، ولا شك في أن حزب الله يقدّم في لبنان اليوم لكثيرين من قيادات "حماس" المأوى والحماية، ولا يُستبعد أنه يقدّم لعناصرها تدريبا عسكريا وتقنيا. لا يمكن للحركة أن تتجاوز هذه الحقائق، خصوصا وأن الضغوط على حليفين آخَرَيْنِ لها، هما قطر وتركيا، تتعاظم إسرائيليا وعربيا وأميركيا. أضف إلى ذلك سقوط رهانات حماس على "الربيع العربي"، وتحديدا الكارثة المدوية التي حلت بها في مصر بعد إطاحة الرئيس محمد مرسي عام 2013، وتشديد النظام الحاكم في مصر الحصار الوحشي على قطاع غزة الذي تحكمه الحركة منذ عام 2007.
إذن، تجد "حماس" نفسها اليوم بين أكثر من فكٍّ يريد هرسها، سواء لناحية أنها تمثل امتدادا 
لـ"الإسلام السياسي" الذي يعلن محور الرياض - أبوظبي - القاهرة العداء له، أم لأنها تعبر عن حالة مقاومةٍ لا تقبل بها إسرائيل، أو لأنها تمثل عقبةً في طريق تصفية القضية الفلسطينية ضمن "صفقة القرن" التي تعكف إدارة دونالد ترامب على حبك خيوطها. ويضاعف من أزمات "حماس" تعثر مسيرة المصالحة مع حركة فتح والسلطة الفلسطينية، واللتين لا يتردد زعيمهما، محمود عباس، في تشديد الحصار والعقوبات على قطاع غزة، أملا في إخضاع "حماس"، حتى ولو كان ثمن ذلك تدمير ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني.
كل ما سبق مفهوم في دفع حركة المقاومة الإسلامية نحو إيران وحزب الله، لكن ذلك لا يعفي القيادة الحالية لها من ضرورة أن تبحث عن صيغ ومفردات مختلفة في التعبير عن مواقفها السياسية المُسْتَفِزَّةُ اضطراريا. السياسة المُسْتَفِزَّةُ، حتى وإن كنت مضطرا إليها، ينبغي التعبير عنها بطريقة ملطفة وبمنطق متّزن، لا بمزيد من الاستفزاز. هذا ما يفعله تحديدا السنوار ونائب رئيس المكتب السياسي لحماس، صلاح العاروري. كثيرا ما يصبّان زيتا على نيران مشتعلة بتصريحاتهما غير المنضبطة. هذا هو الثمن الذي تدفعه "حماس" بعد الإخلال بتوازناتها القيادية، العام الماضي، بين داخل وخارج، بين سياسيين وعسكر، وبين قطاع غزة وأماكن وجود الفلسطينيين ككل. فلسطين هي القضية الوحيدة التي تجمع عليها الجماهير العربية، لم يكسر ذلك ارتكاس القيادة الرسمية الفلسطينية، ودخولها دهاليز التدجين العربي والإسرائيلي والدولي. ولكن من حقنا أن نخشى على مركزية فلسطين في الوعيِّ العربيِّ، عندما يجعلها بعضهم نقيضا لمصالح ومشاعر كثيرين من هذه الأمة باسم المقاومة والحفاظ عليها. حسابات الضرورة مشروعة سياسيا، لكن الذكاء في التعبير عنها لا يقل أهمية، فهي القالب الذي يُثبِتُ للمتابعين والمحبين والغيورين ما إذا كان أهل سياسة الضرورة متمكنين منها، ومن تعقيداتها. ليست المشكلة في حسابات الضرورة، وإنما في كيفية إدارتها وتكييفها وصياغتها.