هل فعلاً "إسرائيل ليست محميّة أميركية"؟

هل فعلاً "إسرائيل ليست محميّة أميركية"؟

15 مارس 2024
+ الخط -

"إسرائيل ليست محميّة أميركية، ولكنها دولة مستقلة وديمقراطية، مواطنوها هم الذين يختارون الحكومة.. ونتوقّع من أصدقائنا أن يتحرّكوا لإطاحة نظام "حماس" الإرهابي وليس الحكومة المنتخبة في إسرائيل". ... هذا جانب من بيان رسمي تناقلته وسائل إعلام إسرائيلية أول من أمس الأربعاء، ونسبته إلى "أعلى مصدر سياسي إسرائيلي يمكن تصوّره"، في إشارة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. اتهم البيان نفسه إدارة جو بايدن بمحاولة التدخّل في السياسة الداخلية الإسرائيلية والسعي إلى إطاحة حكومة نتنياهو على خلفية اتساع شقّة الخلاف بينهما بشأن كيفية إدارة العدوان الإسرائيلي في قطاع غزّة وتنفيذه. ويبدو أن هذا البيان جاء ردّاً مباشراً على تقرير لمجتمع الاستخبارات الأميركي (يمثل 18 وكالة استخبارية)، نُشر الاثنين الماضي، ألقى ظلالاً من الشك على "قدرة نتنياهو على الاستمرار زعيماً" لإسرائيل. جاء فيه "قدرة نتنياهو على البقاء كزعيم وكذلك ائتلافه الحاكم المكون من أحزاب أقصى اليمين والأرثوذكسية المتطرّفة التي اتبعت سياسات متشدّدة بشأن القضايا الفلسطينية والأمنية قد تكون معرّضة للخطر". وأضاف أن أجهزة المخابرات الأميركية تتوقّع "احتجاجات كبيرة تطالب باستقالة نتنياهو وإجراء انتخابات جديدة في الأسابيع والأشهر المقبلة... وتشكيل حكومة مختلفة وأكثر اعتدالاً أمر محتمل".

يؤكّد خبراء في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية أن إعلان (ونشر) مثل هذا التقييم الاستخباراتي الأميركي عن زعيم دولة حليفة يعدّ أمراً غير معتاد، وهو الأمر الذي عزَّزَ من اعتقاد مسؤولين إسرائيليين أن ذلك ما كان ليتم من دون موافقة مسبقة من البيت الأبيض. ولا يخفى حجم الخلافات المتصاعدة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، وبين بايدن ونتنياهو على المستوى الشخصي. ولا يتردّد الرئيس الأميركي في الأسابيع الأخيرة في التعبير عن إحباطه واستيائه من أسلوب نتنياهو في إدارة العدوان في قطاع غزّة، خصوصاً لناحية حجم الضحايا المدنيين، وتعويق دخول المساعدات الإنسانية، فضلاً عن التلويح باجتياح مدينة رفح، جنوبي القطاع، والتي تؤوي قرابة 1.4 مليون شخص، أغلبهم نازحون، من دون خطّة لضمان سلامتهم أو نقلهم إلى مناطق أكثر أمناً. وكان بايدن قد قال، في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن اجتياح رفح يمكن أن يكون بمثابة "خطّ أحمر" بالنسبة إليه، مطالباً نتنياهو بأن "يولي المزيد من الاهتمام للأرواح البريئة التي تُزهق نتيجة الإجراءات المتّخذة". لم يكتف بايدن بذلك، بل اعتبر أن نتنياهو "يضرّ إسرائيل أكثر من مساعدتها". ولم يتأخّر رد نتنياهو، الذي جاء في اليوم نفسه في مقابلة مع موقع أميركي، إذ قال "سنذهب إلى هناك (رفح). لن نتركهم (حماس). كما تعلمون، لديَّ خط أحمر. هل تعرف ما هو الخط الأحمر؟ إن السابع من أكتوبر لن يتكرّر. لن يحدُث ذلك مرّة أخرى".

إسرائيل "محميّة أميركية"، ولكنها عرفت كيف تتمرّد على الراعي وكيف تخترق حصونه وتفاعلاته السياسية الداخلية

اللافت أن بايدن ما كاد يكمل تحذيره السابق بشأن خطّه الأحمر حتى كان يناقضه في الجملة نفسها "لن أتخلّى عن إسرائيل أبداً.. لذلك ليس هناك خطٌّ أحمر أقطع بموجبه جميع الأسلحة عنهم (إسرائيل)". وهو الأمر الذي يدركه نتنياهو تماماً، ومن ثمَّ فإنه حرص في خطابه أمام اللوبي الصهيوني الأميركي الأبرز، لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، الثلاثاء الماضي، على التشديد على أنه لن يرضخ للضغوط الخارجية التي تُطالبه بعدم اجتياح رفح. بل لم يتردّد نتنياهو في الاستقواء على بايدن شخصياً عبر زعمه أن غالبية الأميركيين وأغلبية في الكونغرس تدعم إسرائيل. أمام ذلك كله، تبدو إدارة بايدن عاجزة تستجدي نتنياهو، وهي حين "تسترجل" معه عبر توجيه تهديداتٍ مبطّنة إليه، كالتحذير من شرط المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، لا تلبث أن تتراجع عنها. حتى الضغوط التي مارستها إدارة بايدن على نتنياهو للسماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية برّاً إلى قطاع غزّة الذي يواجه غالب سكّانه مجاعة حقيقية، فإنها ما لبثت أن أقرّت بعجزها ضمناً، فكان أن نسّقت مع تل أبيب إسقاط مساعدات عبر الجو، وهو ما وصفه مسؤولون أميركيون سابقون وحاليون بأنه "إهانة" و"إذلال" إسرائيليان للولايات المتحدة وللرئيس نفسه. أما قصة "الميناء البحري المؤقت" الموعود فهو استمرار للإذلال والمهانة نفسيهما، إذ يتم بالتنسيق مع إسرائيل وسيكون تحت إشرافها الأمني، وهو ما يعد بمثابة استئمان الذئب على قطيع الغنم.

عودة إلى زعم نتنياهو إن "إسرائيل ليست محميّة أميركية ولكنها دولة مستقلة وديمقراطية". المفارقة أن إسرائيل التي تدين بوجودها للدعم الأميركي، تتعامل مع الولايات المتحدة وكأنها صاحبة الفضل عليها. تدرك إسرائيل أنها غير قابلة للحياة من دون أميركا، وفي الوقت نفسه، لا تكفّ عن عضّ يدها الممدودة إليها، ووضع إصبعها في عينها. لولا الدعم العسكري والسياسي والديبلوماسي غير المحدود الذي قدّمته واشنطن لها ما كان لإسرائيل أن تستمرّ في شنِّ حرب الإبادة في قطاع غزّة. ولولا الأصول والقدرات العسكرية الأميركية التي نشرتها إدارة بايدن في المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر لمنع توسّع الحرب إقليمياً، لربما كانت إسرائيل تواجه وضعاً عسكرياً حرجاً. وحسب تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست في 6 مارس/ آذار الجاري، أرسلت إدارة بايدن إلى إسرائيل أكثر من مائة شحنة عسكرية منذ 7 أكتوبر، قيمتها مليارات الدولارات. وحسب تقرير آخر في الصحيفة نفسها (12 مارس/ آذار الجاري)، فإن إسرائيل تلقت من الولايات المتحدة منذ إنشائها أكثر من 300 مليار دولار مساعدات عسكرية واقتصادية، إذا أخذنا في الاعتبار معدّلات التضخّم. وبعد ذلك كله، يزعم نتنياهو إن "إسرائيل ليست محميّة أميركية"! الحقيقة إن إسرائيل "محميّة أميركية"، ولكنها عرفت كيف تتمرّد على الراعي وكيف تخترق حصونه وتفاعلاته السياسية الداخلية وتتلاعب بهما، بشكلٍ يعرّض مصالحه الاستراتيجية العليا للخطر.