20 فبراير.. الحبّ والدومينو

20 فبراير.. الحبّ والدومينو

25 فبراير 2018
+ الخط -
كل سنة في هذا الوقت من شهر فبراير (شباط)، أقول: ليتني كتبت شيئًا في تحليل حركة تأثير 20 فبراير على المشهد السياسي المغربي، بمناسبة ذكراها السنوية. لكن فبراير يأتي ولا يبقى منه سوى تفكير مُبتسر في عيد الحب، الذي يأتي في منتصفه، ويسرق جزءًا مهمًا منه. عدا ذلك، لا يترك هذا الشهر أي أثر فيّ، ولا يجعلني أحنّ، أو أتأسف بذلك الشكل الذي يفعله بعضهم.
تأتي ذكرى 20 فبراير بعد عيد الحب، كذكرى قصة حب قوية، لامعة وعالية التوقّع ورومانسية، فاقعة الأمل. ولا نأخذ من ذلك كله التطلّع إليها، سوى طعم الخسارة البالغ المرارة، وغصّة الخيبة الحارقة، في الأيام الموالية، لاسترجاع طعمها في ذاكرتنا. ونكتشف بعد وقت طويل، أنه لا حبّ، ولا عيد حبّ، فقط هي الحياة تلعب بنا/ معنا. وأنّه لا عشرين فبراير، أو عشرين أغسطس. هي قائمة أحداث قصيرة المدى، وحده الحنين من يمنحها ذلك الحجم الذي توهّمناه. وأن لا تغيير في منطق الأمور، هي الأشياء نفسها على حالها قبل عشرين فبراير وبعدها، وأنه يجب أن نتجاوز ما حدث إلى التفكير فيما يمكن أن يحدث مستقبلًا. فهل صحيح أنّه كان حلمًا وانتهى بعد طلوع شمس الصباح؟
سيكون هذا صحيحًا إن كنا ننظر إلى عالم السياسة بعين الحالم، العاطفي، النزق، والرومانسي. 
العين نفسها التي تنظر إلى الحب الذي يجب أن يُحضر لنا نصفنا الثاني على طبق من ذهب، كما نريده، ومتى نفعل، وكما نحب، بغض النّظر عن كونه إنسانًا بدوره، ويريد أشياء أخرى مثلنا. ونطوي صفحته، بمجرد أن ندرك استحالة ذلك، بخيبة نزقة، وندم خفي على هدر الطاقة على من لا يستحقنا، كما يُهيّئ لنا لحظتها.
لكن السّياسة ليست قصة حب، وقواعدها غير مزاجية، أو عاطفية. بل النّظر إليها من نافذة العاطفة يحوّلها إلى لعبة هواة، بدل أن تكون بطولة احترافية. وكوننا على بعد سبع سنوات من الحدث، ما زلنا نحكّم العاطفة، ونقول كان حلمًا كبيرًا بالتغيير وأُجهض. متناسين أن كل ما هو سياسي يخضع لصيرورة تاريخية تحكمه، وتحدد بدايته ونهايته. ضاربين عرض الحائط كل ما أنتجه علماء السياسة والمفكرون والفلاسفة. غاضين الطرف عن تداعياته على الوعي السياسي الشعبي، وعلى ما أفرزه من حركاتٍ احتجاجية لاحقة، أسست لظاهرة سياسية جديدة في الساحة المغربية. نتحول إلى عشاق نزقين، بدل أن نكون محللين منطقيين، أو فاعلين يمتلكون تفكيرًا سياسيًا يتجاوز الأماني القصيرة النفس.
فتأثير "20 فبراير" على المغرب، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، جذري، والأحداث لا تقاس بنتائجها المباشرة، بل بتداعياتها على الأمد البعد، مثل لعبة الدومينو التي يصعب التكهن بمدى تداعيها، إذا لم تكن من بناها.
ويؤكد السياق الذي رافق حركة 20 فبراير أن لا شيء منفصلٌ عن آخر فيما يتعلق بالسياسة. وما يحدث داخل الدول ليس داخليًا تمامًا، لأنه يؤثر في الخارج ويتأثر به، بالسياق الدولي بشكل لا يمكن تفنيده. وليس فقط بإملاءات المؤسسات الدولية المهيمنة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بل بالمسار السياسي الذي تعرفه دول أخرى، ليس بالضرورة أن تكون دول جوار، والدليل انتقال موجة "الربيع العربي" إلى أوروبا. وأثبت أنه يمكن أن تكون هناك موجات سياسية تهم العالم بأسره، مثل موجة "الشّعبوية" التي أفسدت السياسة والنخب، في دول كثيرة، ابتداء من الدولة الكبرى إلى الدول المتعثرة في السعي إلى الديموقراطية.
كذلك يمكن اعتبار بروز الشارع باعتباره مساحة قوية الحضور في القرار السياسي الذي لم يعد يؤثر في الشارع فقط، بل يتأثر به، إحدى الموجات العالمية التي أدت إلى 20 فبراير ورافقتها. مع تحوّل العلاقة بين الشّارع ومصدر القرار، من علاقة تلقٍّ إلى علاقة تفاعلية قوية التّجاذب وحيوية التواصل. ولم يعد الفرد لا حول له سوى الصّوت الذي يضعه في صناديق الاقتراع، مرة كل بضع سنوات، بل أصبح فاعلًا سياسيًا مباشرًا، بمجرد أن يقرّر التوجه إلى الشارع، برفقة أفراد آخرين يشكلون قوة ضغط سياسي جبّارة.
ولذلك، التسرع بالحكم بانتهاء حركة 20 فبراير في المغرب من دون تأثير لها يذكر، نظرًا لتراجع منسوب الحريات، وعودة قوىً توارت بعد الصّدمة المباشرة لعشرين فبراير، حكم قصير النظر، ويحتاج إلى النّظر إلى الوراء، إلى سيرورة الأحداث السياسية الكبرى في الدول الديمقراطية التي راكمت قدرًا كبيرًا من الصّراعات والحراكات، قبل أن تصل إلى حيث هي الآن. والحركية التي عاشتها النّخب السياسية فيها، وتصاعد الوعي الشعبي تدريجيًا.. ليدرك أن حركة 20 فبراير مستمرّة، وتأثيراتها ممتدة في الزمن، إلى وقتٍ لا نعلم قدره. قد تكون التّأثيرات مباشرة، أو غير مباشرة في دوافع الاحتجاج، وحركية الشارع المغربي الذي أصبح أكثر وعيًا بأهمية الاحتجاج وشروطه، وكذلك القوى السياسية التي بدأت في استغلاله ضد خصومها السياسيين.
من بين هذه التأثيرات، الانتقال من التجمّع الصدامي إلى التجمع السلمي (تفنيد نظرية 
الفوضى)، إذ تغير مفهوم الاحتجاج، مع ما يرافقه من تمثّلات وممارسات، من مستوى الإضراب إلى ظاهرة استغلال الفضاء العمومي، عبر عدد من الأشكال الاحتجاجية، كالوقفات والمسيرات والاعتصامات والإضراب عن الطعام. متجاوزًا بذلك، وبشكل كبير، بعض إمكانات صناعة العنف والعنف المضاد التي كانت تبصم اشتغاله وديناميته في أوقات فائتة مغربيًا.
ومن خلال قراءة مجموعة من المظاهرات الأخيرة، يمكن الوصول إلى خلاصةٍ مفادها بأنّ مرور المظاهرات في جوّ من النظام، والحرص على عدم حدوث أعمال شغب، أصبح هاجسًا لدى منظمي المظاهرات، إلى درجة أنه يصبح هدفًا يوازي في أهمية المطالب التي تم الخروج لأجلها، كي لا تفقد شرعيتها، ويتم إجهاضها، بدعوى تسبّبها في أعمال شغب، أو يبعد شرائح واسعة من الأفراد عن المشاركة في المظاهرات، خوفًا من نتائج أعمال العنف، أو تحمّل تبعات هذه الأعمال. حيث يحرص المنظّمون على الدعوة إلى الحفاظ على النظام، وعدم السماح لعناصر تعتبر دخيلةً أو مدسوسةً من جهاتٍ من مصلحتها إجهاض التظاهر حين يفقد سلميته.
واستغلال الشباب أيضًا، للتظاهر وسيلة ليس فقط للاحتجاج على وضع معين، بل على المؤسسات السياسية الوسيطة التي فشلت في تمثيله، وعلى التّهميش والإقصاء الذي تعرّضت له الفئات الشابة، أو التي تذهب إلى معارضة التوجهات التي اتفق النسق السياسي عليها. ليعتبر من بين الأسباب الأكثر دفعًا للخروج إلى الشارع للاحتجاج، لأنه الوسيلة الوحيدة المتبقية أمام هذه الفئات، والتي لا يمكن إخضاعها لإرادة الفاعلين السياسيين، أو إغلاقها في وجهها.
ومثل عيد الحب، نؤجل التمنّي إلى عام آخر. ومثل لعبة الدومينو، تميل الأشياء إلى التداعي، بقدر ما بذلنا في البناء من جهد.

دلالات

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج