اتحاد المغرب العربي.. إرادة الشعوب وعجز الساسة

اتحاد المغرب العربي.. إرادة الشعوب وعجز الساسة

18 فبراير 2018
+ الخط -
يعود البحث في أدبيات جذور فكرة المغرب العربي الكبير إلى أوائل القرن العشرين، فقد بدأت الدعوة إلى بناء هذا الصرح موزعة بين إسطنبول في أوائل القرن وباريس في العشرينيات، ثم تطورت عقدا بعد عقد، مع اشتعال جذوة مقاومة الاستعمار وضرورة التنادي إلى الكفاح المشترك عبر الأقطار المغاربية. ومع قيام الجمعيات والأحزاب في المهجر، وخصوصا فرنسا، وفي الداخل، أصبحت فكرة قيام المغرب الكبير تتصدر برامج هذه الجمعيات والأحزاب، وأهدافها وأدبياتها. ومن ذلك التلاحم المغاربي الذي شهده مكتب المغرب العربي، والمتمثلة في الاستعمار والسعي إلى كسب الأنصار من أجل إخراج هذا الغريب وتحقيق الاستقلال. نمت الفكرة، فأصبحت هدفا للتجسيد، والتأمت حوله في مؤتمر طنجة (إبريل/ نيسان 1958) أحزاب رائدة في المنطقة المغاربية في طليعتها حزب الاستقلال، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، والحزب الدستوري الجديد التونسي.
وبين 1958 و1964 انشغلت الأقطار المغاربية ببناء الدولة الوطنية، دولة الاستقلال. وفي 1964 شهدت الأقطار المغاربية محاولة أخرى في طريق بناء الاتحاد، وهي بعث اللجنة الاستشارية الدائمة "للمغرب العربي" قاعدةً لتعاون اقتصادي مغاربي.. ولكن هذه اللجنة منيت بالشلل، ثم العجز التام عن أداء الهدف الذي تشكلت من أجله. ثم في 17 فبراير/ شباط 
1989، التقى الرؤساء في قمة مغاربية في مراكش، حيث وقع التوقيع على معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي، تجسيدا لتطلعات الشعوب المغاربية إلى "إقامة اتحاد بينهما يعزّز ما يربطها من علاقات، ويتيح لها السبل الملائمة لتسير تدريجيا نحو تحقيق اندماج أشمل فيما بينها". وفتحت تلك القمة التأسيسية للاتحاد مجالا لإبرام حوالي 37 معاهدة تتعلق بمجالات مختلفة، وتكرس إنشاء سوق مغاربية واتحاد جمركي وإلغاء للحواجز وفتح للحدود بين الأفراد والبضائع، كما تم الشروع في إنشاء هياكل مغاربية تعنى بالاقتصاد والمال والتعليم.. إلخ. وظلت أغلب هذه الاتفاقات حبرا على ورق، وتم تجميد الهياكل المغاربية المرتبطة أساسا بمجلس الرئاسة الذي لم يُعقد منذ 1994، علما أنه الهيئة العليا الوحيدة التي تمتلك حق القرار.
واليوم، وبعد 29 سنة، يعود السؤال الذي أصبح تقليديا، وما انفك يعود في كل ذكرى سنوية لتأسيسه: أين الاتحاد المغاربي، وإلى أين هو ذاهب؟ إلى انبعاث أم إلى غياهب النسيان، وبذلك تطوى أحلام الشعوب المغاربية وآمالها في أن يكون لها تكتل على غرار تكتلات إقليمية أخرى، حققت لشعوبها أسباب التعايش والتعاون والتكامل الاقتصادي والأمني والسياسي؟. حققت تكتلات أخرى ذلك لشعوبها، لا تمتلك المقومات الجغرافية التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تجمع أقطار المغرب العربي وشعوبه التي تواصل دفع ضريبة شلل الاتحاد المغاربي، في مواجهة تحديات عديدة وخطيرة، كادت أن تطبق على جسد الفضاء المغاربي.
التحديات التي تواجه الشعوب المغاربية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، عديدة ومتنوعة، وموزعة على المجالات الأمنية والاجتماعية، ذلك أن كلفة اللامغرب العربي، ككيان مشتت الجهود والوجود، حيث تغيب سياسات التنسيق وإرادة التكامل والتعاون، أصبحت اليوم عالية جدا، فقد أظهرت إحصائيات اقتصادية موثوق بها أن دول الاتحاد المغاربي تخسر نحو عشرة ملايين دولار سنويا، أي نحو 2% من ناتجها القومي الإجمالي، يضاف إلى ذلك ازدياد مهول لمعدلات الفقر التي تفوق اليوم 18% من مجموع السكان، بعد أن كانت لا تتجاوز 12.5% في بداية تسعينيات القرن الماضي. أما نسبة الفقر فتقدر بين 13% و22%، ما فاقم عجز الاقتصاديات المحلية المغاربية على توفير حد أدنى من فرص العمل الكافية للشباب. وبذلك أصبحت ظاهرة الهجرة غير الشرعية نحو دول الشمال كابوسا مرعبا لدى آلاف العائلات المغاربية التي ابتلع البحر فلذات أكبادها. وفي أحسن الأحوال، تجد طاقاتٌ شابةٌ نفسها، إن نجت من الهلاك، في سجون بلاد الجنة الموعودة أو في أزقتها وشوارعها، بين مافيا المخدرات والإجرام. أما الديون المغاربية، فيصل حجمها اليوم إلى 70 مليار دولار.
لا تقف قتامة هذا المشهد عند هذا الحد، إنما تزاد سوادا بتزايد التحديات الأمنية المتأتية من تناسل بؤر الإرهاب التي أصبحت معها مجالات واسعة من الأراضي المغاربية سوقا للسلاح ونقاط جذب لعدد ملحوظ من الشباب المغاربي المستقطب من جماعات التطرّف الديني في منطقة الساحل والصحراء. كما استجدّ اليوم تحدي الإرهاب العابر للقارات، وانتشار قواعده على امتداد الساحة المغاربية، وصولا إلى الصحراء الكبرى، وإلى دول الساحل، مثل مالي والنيجر والسنغال. وأصبح هذا التحدي من أكبر التحديات التي تحتم فورا قيام تنسيق جيوسياسي أمني مغاربي.
بعد محاولة اللجنة الاستشارية المغاربية لسنة 1964 وقمة مراكش في 17 فبراير/ شباط 1989 التي توجت بتوقيع معاهدة إنشاء اتحاد مغاربي عربي، وقيام بعض المؤسسات المغاربية بعد ذلك، خبت الشعلة، وتراجعت الفكرة، وأصبحت الصورة قاتمة عنوانها: أين الاتحاد المغاربي اليوم، وإلى أين يذهب؟ وأمام إصرار الشعوب المغاربية على تعزيز حقها في الوحدة والتلاحم، تستعاد هذه المقدمات، لفتح باب الأمل من جديد، وإمكانية قيام الاتحاد، إذ جعلت الأحزاب المغاربية ومنظمات المجتمع المدني الهدف المغاربي ضمن أوليات أهدافها.
تظل هذه الإمكانية قابلة للتحقيق، إزاء ما تشهده المنطقة من انتعاش ملحوظ لدور المجتمع المدني بكل أطيافه، وكذا الأحزاب في السلطة والمعارضة. ذلك ممكن إذا كرست هذه المنظمات والأحزاب أولويات بناء مغرب الشعوب ضمن برامجها وأهدافها، في إطار منظومات اجتماعية للعمل السياسي والمدني. وأهم الأدوار المنتظرة اليوم من الأحزاب المغاربية يكمن في تأسيس وعي جماعي آخر، يشكل نمطا جديدا لعمل سياسي ديمقراطي، يتكامل مع مجهود المجتمع المدني، من أجل إعلاء قيم المواطنة شروطها وواجباتها وحقوقها، بحيث تصبح للفرد والجماعة منظومة حقوق تجاه مفهوم عصري للسلطة، كعقد اجتماعي متوافق عليه، يصبح بموجبها العمل السياسي شأنا عاما يتداوله الجميع، ولا تحتكره جهة أو طائفة أو حزب ما.
وبذلك يتحول الإنسان المغاربي من مجرد رقم في المجتمع إلى إنسان في مجتمع المواطنين الأحرار. مجتمع المواطنة والمواطنين الأحرار الفاعل والمؤثر في توحيد المواقف والخيارات، وتدفعه شرعية شعبية، تكون أداة هائلة للتغيير السياسي والاجتماعي، بما في ذلك تغيير راهن هذه الشعوب، المتسم بالعجز عن التلاحم والتكامل والوحدة نحو تفعيل شعبي لاتحاد مغاربي، يضمن مصالح هذه الشعوب، ويواجه التحديات الراهنة والمستقبلية، ومنها عمل بعض الأطراف والقوى على ألا يتحد المغرب الكبير.
يمكن أن يكون الانصهار المغاربي هدف الأحزاب والنقابات والاتحادات والجمعيات والنخب 
المغاربية. وحلم الانصهار الذي نحلم به لا بد أن يمر عبر قنوات الشباب المدونين وقنوات الإعلام التقليدي والجديد، ومن خلال المناهج التربوية، وعبر الانتقال الحر للمصنفات الفنية والثقافية، فإن كانت الدبلوماسية الرسمية قد فشلت في إذابة جبال الجليد بين بعض البلاد المغاربية، فلا بد اليوم من قيام دبلوماسية شعبية تطلق العنان لمبادرات التواصل والتبادل، وتؤسس لوعي شعبي بضرورة تجاوز للتلاقي، وتثبيت قناعة الوحدة لدى هذه الشعوب.
يمكن أن يتكرّس دور الأحزاب في تحقيق هذه القناعة من خلال الهياكل الشبابية المنتمية لهذه الأحزاب، شباب المدارس والجامعات، وشباب المدونين الذين قاموا بثورة معلوماتية أسهمت بقسط كبير في شحن الشعوب بوقود الثورة التي أسقطت أعتى الدكتاتوريات. وينتظر شباب الأحزاب المؤمنة بضرورة قيام التكتل المغاربي تأطيرا وتأهيلا وتكوينا من أجل القيام بثورة الشباب المدونين المنادين بالوحدة المغاربية. وبعد 15 عاما، سيقدّر عدد سكان المغرب العربي بـ80 مليون نسمة، وسيتحتم إيجاد 34 مليون فرصة عمل للحفاظ على المستوى الحالي، كما يتحتم توفير أكثر من 53 مليون فرصة عمل، إذا أرادت البلاد المغاربية اللحاق بمعدل التشغيل في دول الاتحاد الأوروبي.
يحتم هذا أن تخلع الأحزاب المغاربية كساءها القديم، لتنغمس في العمل الاجتماعي والثقافي والمعرفي. ويحتم هذا المجال قيام مركز لدراسات الوحدة المغاربية مثلا، يستقطب رواد الفكر وأهل الثقافة والاستراتيجيين في المستقبليات، ذلك أن الخطر الأكبر في تداعيات كلفة اللامغرب العربي يمكن أن تصل، لو استمر الحال على ما هو عليه، ليس إلى هدر الطاقات والفرص والثروات فقط، بل إلى صعوبة إقناع شباب المستقبل بإمكانية قيام تكتل في عصرٍ أصبحت المعادلات فيه تحكمها التكتلات.
ولعل أبرز مهمات الأحزاب اليوم الضغط على الحكومات، من أجل احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان المغاربي، باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الرشيد القادر على إنجاز التنمية المستدامة، من دون أن تتغافل هنا عن تمكين المرأة المغاربية من بناء قدراتها الذاتية، والمشاركة مع الرجل في جميع مجالات المعرفة والإبداع، لتحقيق الرفاه المغاربي، إسهاما في كونية الرفاه الإنساني.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي