هذا الدرس من حراك "السترات الصفراء"

هذا الدرس من حراك "السترات الصفراء"

10 ديسمبر 2018
+ الخط -
اعتدنا في عالمنا العربي اعتبار السياسة العامة مجالا حصريا للسلطة، تتخذ فيه قراراتها من مراجعة لها، بل من دون دراسة احتمالات ردود الأفعال والرّضا بها قبل إقرارها وإلزام الناس بانعكاساتها. وبمناسبة حراك "السترات الصفراء" في فرنسا، وتراجع الرئيس إيمانويل ماكرون عن قرارات رفع أسعار الوقود، هل يمكن اعتبار ذلك فشلا سياسيا، أم حوارا مجتمعيا بنّاء، يساهم في عملية الفعل وردّ الفعل داخل المجتمع بأدوات ديمقراطية؟
تلزم الديمقراطية من يتّخذها مقاربة سياسية أيدلوجية وإجرائية، في إطار عقد اجتماعي بين الحكّام والمحكومين، باتباع قاعدة الاستشارة قبل اتخاذ القرارات، أو أنها لا تُتّخذ إلا بعد دراسة لها من جميع جوانبها من خلال دورة النّجاعة -الرّشادة- الانعكاسات، ويتمّ ذلك بأدوات يُقرّها القانون، ويسيّرها ممثّلون (المشرّعون) والمنفّذون (الحكومة أو من ينوب عنها) وهي دائرة تُتّخذ فيها القرارات بالأغلبية، ويتمّ إلزام الناس بها، مع الاحتفاظ بهامش الاحتمال المتضمّن رفض هذا الإجراء بأدوات مشروعة (إضرابات، احتجاجات) تنتهي إلى مفاوضاتٍ يُعاد من خلالها مراجعة النّقاط التي تكون قد لاقت الرّفض أو عدم الرضا. وهكذا دواليك، وصولا إلى نجاح/ فشل سياسي، تكون نتيجته إمّا إعادة الانتخاب لعهدة جديدة أو تداول على السلطة لصالح حكومة وبرلمان جديدين.

حاول الرّئيس ماكرون، منذ انتخابه، فرض واقع اقتصادي جديد على الفرنسيين الذين اعتادوا على دولة الرّفاه الاجتماعي، ليتمّ فرض نظام ضريبي، أجمع السياسيون والنقابيون، إلى جانب المواطنين، جميعهم، يمين ووسط ويسار، على اعتبار تلك السياسة تحيّزا للأغنياء، وتنكّرا للنّموذج الاقتصادي الفرنسي. وعبّر الفرنسيون عن ذلك بالرّفض في حراكٍ بدأ، نهاية الصيف الماضي، صغيرا لمواطنين عديدين، كانوا يتميزون بسترات صفراء، وليكبر، شيئا فشيئا، مع الدّخول الاجتماعي، ويصبح حراكا كبيرا، ويغطّي التّراب الفرنسي، بل تجاوزه إلى المقاطعات ما وراء البحار. من ناحية مضمون المطالبات، كان لأصحاب السترات الصفراء مطالب ذات طبيعة اجتماعية، تنطلق من الضغط الضريبي، وترتكز على فكرة التحيّز لصالح الأغنياء الذين أُلغيت بعض الضرائب التي كانت مفروضة عليهم تحفيزا لهم على الاستثمار، وتحريك دواليب الاقتصاد من خلال التّشغيل. وتطوّرت دائرة الرّفض، مع إقرار الحكومة زياداتٍ في أسعار الوقود، كان من المفروض أن تدخل حيز التنفيذ في يناير/ كانون الثاني المقبل، وهي زيادات لها انعكاسات على أسعار الخدمات والقدرة الشرائية للمواطن الذي يعاني، أصلا، منذ عقود، من غلاء تأجير المساكن، النّقل، البطالة...
وبما أنّ فرنسا دولة ديمقراطية، وتحكمها توازنات المؤسسات، لزم التراجع عن تلك القرارات التي لم تجد صداها لدى الفرنسيين، بعد رفضها، مع الدّعوة إلى مفاوضات مع أطراف العقد الاجتماعي: الأحزاب، المجتمع المدني، وممثّلي السترات الصفراء، احتواءً للموقف، وتوقيفا لمسار الاحتجاجات التي عطّلت عجلة الاقتصاد، وتجاوزت الحدود الأمنية المسموح بها، وخصوصا في باريس.
المهمّ، هنا، هل التراجع فشل، أم أنه آلية حوار مجتمعي، ودليل على نجاعة الأدوات الدّيمقراطية في إدارة الأزمات الاجتماعية؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال، من دون الإشارة إلى أن التراجع عن القرارات من أهمّ سمات المجتمعات الديمقراطية، ولا تعبّر، ألبتّة، عن الفشل، إذ هي، إلى جانب الأدوات الديمقراطية الأخرى، مقاربة في الحكم معروفة في إطار لعبة الشّد والجذب في عملية الحكم وصناعة القرار.
إذا كان الأمر على تلك الشاكلة، فلماذا، إذن، نعتبر، في عالمنا العربي، القرارات الحكومية ذات طبيعة قُدسية، لا تحتمل النّقد، المراجعة أو التّراجع؟ أليس ذلك من نتائج غياب الرأي العام وتغييبه عن المشاركة في صنع القرار، وتعبيرا واضحا عن غياب التمثيل الديمقراطي وتغييبه في كل المؤسّسات، بدءا بالبرلمان وصولا إلى النقابات المفترض أنها تدافع عن حقوق العمال والموظفين والمحرومين في المجتمع؟
من دروس التراجع عن القرارات في الأنظمة الديمقراطية أنّ الأزمات الاجتماعية ظاهرة صحية، وهي القاعدة، لأن المجتمع يتعامل بالتدافع، أي جدلية الرأي والرأي الآخر، ولا يمكنه الاستقرار على قدسية رأي ومقاربة حكم مع منع الآخرين، المواطنين، في هذا المقام، من التعبير بشتى الطرق المتاحة قانوناً عن عدم رضاهم أو، على الأقل، المحاججة عن رؤاهم للقضايا المجتمعية التي تعكسها هذه القرارات. ويتيح الفضاء الديمقراطي فسح المجال أمام تلك الجدلية، وهي أساس عملية التداول على السّلطة، بل هي مناط النجاح أو الفشل في إدارة 
دواليب الحكم. وتعد مقاربة المراجعة/ التراجع عن القرارات من سماتها المعبرة عن النضوج، لأنها تعبير عن حضارية الحوار في إدارة الأزمات الاجتماعية، من خلال طاولة المفاوضات.
يعج عالمنا العربي بالأزمات الاجتماعية، ولا نرى تراجعاتٍ، بل إصرارا على تمرير تلك القوانين، مع تجنيد وسائل الإعلام لتصوير أنّ تلك القرارات رموز للحكمة، بل من مزايا الحكومات العربية وأياديها البيضاء على شعوبها. وقد يمرّ القانون من دون مناقشة في مجالس نيابية غير تمثيلية للشعوب، كما قد تمرّ تحت ضغط الموانع التي تضعها تلك الحكومات، والتي تحول دون التعبير عن رأي المواطن فيها، قبولا أو رفضا أو تعديلا، وذلك كله بحجّة الخوف من تعريض أمن الدول للخطر، أم تصوير من يقوم بعمليات الاحتجاج بأن أيادي خارجية تحرّكه.
في الأخير، هناك إشكالية يتيحها الفضاء الديمقراطي، ويسمح بها، ولها صلة بطبيعة العمل السياسي في المجتمعات المتحضّرة، وهي التداول على السلطة، ومعنى النجاح أو الفشل في العمل السياسي، لأن ذلك كله مرتبط بمقاربة الحوار وقدسية حق المواطن في التعبير عن رأيه مع قدسية أن القانون هو من يحكم حراك الحكومة للحكم وحراك الشعوب، للتعبير عن رأيها من خلال الأدوات التي يتيحها ذلك الفضاء الديمقراطي.
إلى متى نبقى بعيدين عن تلك المقاربة؟ وإلى متى يبقى القدسي عندنا أن القرار الحكومي تفويض شبه إلهـــي، ولا يقبل الطعن، النقد أو الرفض؟ تلك أسئلة وآلاف غيرها تنتظر الإجابة في عالمنا العربي، ودونها بقاء الدول واستقرارها. التّدافع طبيعة بشرية ومقاربة التراجع عن الرأي، إذا كان مرفوضا أو فاسدا ليس الفشل، بل الفشل هو قمع الحريات وتقديس الكراسي. وإنّ غدا لناظره لقريب.