جوار روسيا وجوار الجزائر... اللُّعبة الجيوسياسية

جوار روسيا وجوار الجزائر... اللُّعبة الجيوسياسية في الميزان

04 فبراير 2024
+ الخط -

ألغت السُّلطة الانتقالية في مالي اتّفاقية السلم والمصالحة، المبرمة في 2015، بوساطة جزائرية، على إثر تحالفات جديدة في المنطقة، انخرطت فيها بوركينا فاسو والنّيجر ومالي، استدعت فيها مليشيات فاغنر الرُّوسية، وقرّرت الخروج من المنظّمة الاقتصادية لغرب أفريقيا، وهذه، كلُّها، قراراتٌ استراتيجية ليست في مصلحة الدولة الجارة، الجزائر، التي تدرك، في عقيدتها الاستراتيجية وسياستها الخارجية، أنّ السّاحل جوارها الجيوسياسي الذي دونه الخطوط الحمراء، بما لذلك من تداعياتٍ قد تعصف بالأمن القومي وتجعله على المحكّ، إزاء قضايا حيويّة، على غرار الهجرة غير الشّرعية، الإرهاب، انتشار الهشاشة والفشل، انتشار المناطق الرّمادية، التّدخُّلات الأجنبية في المنطقة وتحرُّكات فواعل غير الدّولة (مليشيات) على حدود الجزائر الجنوبية، أو قريبة منها.

تنطلق المقالة من إدراكٍ يشكّل محور العقيدة الاستراتيجية والسّياسة الخارجيّة لأيّ بلد، مهما كانت قوته، وأياً كان موقعه في النّظام الدُّولي، وتحاول أن تنظر في قرارات روسيا عندما أدركت أنّ جوارها الجيوسياسي جرى المساس به أو أنّ ثمّة سياساتٍ ما، من أميركا وحلف شمال الأطلسي والاتّحاد الأوروبي، قد تصل إلى المساس به، وكيف أنّ روسيا، نفسها، تتصرّف، في الجوار الجيوسياسي السّاحلي - المغاربي، بما لا يتّفق مع إدراكاتها هي بالنسبة إلى جوارها، وهو ما يستدعي تفكيراً جزائرياً في طبيعة الشّراكة الاستراتيجية التي يجب أن تكون بين روسيا وبينها، وما يستدعيه الموقف من إعادة تفكير (مراجعة) في الأسس التي تربط علاقاتنا مع هذه القوّة، من ناحية، وطبيعة الرُّدود التي على الجزائر تفعيلها حتّى لا تتفاقم الأمور وتذهب إلى غير ما نريده، في المنظورين، القريب والمتوسّط، من ناحية أخرى.

نعلم أنّ روسيا بوتين وضعت لنفسها، في خطّ استراتيجي مرتبط بمرجعيّة التّاريخ، عقيدة أمنية تخضع لثوابت أولها، على الإطلاق، ما باتت تُعرف بنظرية الجوار الجغرافي لروسيا، أي المناطق التي تدرك موسكو أنّها امتدادات لعمقها الجيوسياسي، وكل ما يقترب من درجة التّهديد، في ذلك الإدراك، عسكرياً كان/أمنياً/دفاعياً، أو غير ذلك، اقتصادياً أو اجتماعياً. وعلى هذا الأساس، اتخذت روسيا قرارات كبيرة، من حيث الوزن الاستراتيجي، سواء لإقرار حربٍ مع جيورجيا، أو لضم جزيرة القرم والغزو، الحالي، أوكرانيا، بمبرّر أن ذلك الجوار الجيوسياسي لروسيا قد جرى المساس به أو يكاد، وجاءت كل تلك القرارات استجابة لذلك الإدراك.

اتخذت روسيا قرارات كبيرة، من حيث الوزن الاستراتيجي، سواء لإقرار حربٍ مع جورجيا، أو لضم جزيرة القرم وغزو أوكرانيا، بمبرّر أن جوارها الجيوسياسي جرى المساس به أو يكاد

كما نعلم، أيضاً، أنّ قرارات روسيا تلك لم تكن لتنال رضا القوى العظمى المتنافسة معها على هرمية النّظام الدُّولي على غرار أميركا وذراعها العسكرية، حلف شمال الأطلسي، وهو ما أدّى إلى إقرار عقوبات ومساعدة الأطراف المتضرّرة من الإدراك الرُّوسي لجوارها الجيو سياسي. وبالرّغم من ذلك، استمرّت موسكو في نهجها، ووقفت، بما تملك من أدوات، بشتّى أنواعها، مدافعة عن جوارها وعن عقيدتها، وهذا حقُّها بمرجعية فوضى النّظام الدُّولي وعدم اعتداده إلا بعامل القوّة، ليس إلا.

لكن، ما تخطئ فيه موسكو، حقّاً، أن ما تدركه هي بشأن جوارها الجيوسياسي لا تريده حتى لمن تعتبرهم شركاء لها تاريخياً وعلى السّاحة الدُّولية التّي يعزّ فيها أن تجد شريكاً لروسيا في ظلّ المشكلات التي أثارها نهج بوتين لإعادة روسيا إلى هرمية النّظام العالمي والتّنافسية الدُّولية برفقة أميركا والصّين، أساساً.

ما تخطئ فيه موسكو، حقّاً، أن ما تدركه هي بشأن جوارها الجيوسياسي لا تريده حتى لمن تعتبرهم شركاء لها تاريخياً وعلى السّاحة الدُّولية

انخرطت روسيا في اتّخاذ قراراتٍ في أربعة ملفّات كلها تتناقض مع مصالح الجزائر بما يثير أسئلة عن طبيعة الإدراك الرّوسي للشّراكة الاستراتيجية وعدم ثباتها بشأن العقيدة الاستراتيجية الخاصّة بالجوار الجيوسياسي. يتعلّق الأمر بالنّسبة إلى الملفّات الأربعة بثلاثة مستويات: المغاربي (اللّيبي)، السّاحلي - الصّحراوي (الملفّان المالي والمشروع الغازي الممتد من نيجيريا إلى المتوسّط مروراً بالنّيجر ثمّ الجزائر)، الدّولي برفض ملف انضمام الجزائر إلى منظومة البريكس على الأقل بتصريحات وزير الخارجية الروسي، لافروف، التي أشارت إلى معايير ضمّ الأعضاء الجدد تأسيساً على الأمية الجيوسياسية والاقتصادية، بما يعني التّقليل من شأن الجزائر في هذين المستويين (لا نريد التوسُّع بمستوى آخر ومستوى القرن الأفريقي، حيث تعمل روسيا ضدّ الخيار الجزائري الذي يدعم الجنرال عبد الفتاح البرهان ضد قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي).

لروسيا كلّ الحقّ في اختيار ما تراه صالحاً لمصالحها، مع توضيح أنّ الملفّات الأربعة التّي تناقضت فيها مع الجزائر في جوارها الجيوسياسي (العمق الاستراتيجي المغاربي والسّاحلي - الصّحراوي للجزائر) لا يمكن أن تبقى على طبيعة العلاقات التي يصفها المختصون الرّوس بأنّها شراكة استراتيجية مع الجزائر، حيث هناك "فاغنر"، مليشيات عسكرية روسية، تتحرّك ضدّ مصالح الجزائر مدعومة من موسكو في أكثر من بلد ساحلي، كما أنّ هناك دعماً روسياً لسلطات انتقالية في أكثر من بلد ساحلي، بدأت باتّخاذ قرارات بشأن خيارات في تناقض تامّ مع المصالح الجزائرية في جوارها الجيوسياسي.

هناك مستوى آخر، بالنسبة إلى الجزائر في تأكيد إدراكها جوارها الجيوسياسي وتفعيله ليكون خطًّا أحمر دونه الخصومة والقطيعة، وهو التعامل مع ذلك الجوار بمثل التّعامل الرّوسي كما أسلفنا، مع البقاء في دائرة الثّوابت الجزائرية التي تتمحور حول عدم التّدخُّل في شؤون الدُّول، الارتكاز على ثلاثية الأمن والسّلم والتنمية، وصولًا إلى الاستمرار في تفعيل دور الوساطة لإدارة أزمات الجوار الجيوسياسي وصراعاته، ولهذا لم تتعامل الجزائر بتشنّج مع قرار باماكو (لم تستدع السفير ولم تقطع العلاقات) إلغاء اتّفاق السّلم والمصالحة، لأنّها أطلقت، بعد ذلك، حواراً داخلياً مع الفاعلين المنخرطين أنفسهم في اتفاق الجزائر، حتّى مع اعتبار أنّ بعضهم منهم صُنِّف في خانة المنظّمات الإرهابية، حتّى مع التحرك العسكري أخيراً، بمساعدة فاغنر، للسّيطرة على شمال مالي.

للجزائر قدرات لإدارة السلم والوساطة لتجسيد الاستقرار مع تفعيل لعبة التنافسية الدولية بما يخدم الشراكة الجزائرية الروسية

ما يهمُّنا هنا، تّأكيد العقيدة الاستراتيجية الجزائرية بشأن الجوار الجيوسياسي الذي يجب أن يبقى يُدار بكفاءة على المستوى الثُّنائي، مع الفرقاء في المنطقة السّاحلية - الصّحراوية، وعلى المستويين، الدولي والإقليمي بالتّواصل المستمر لإعلام الجميع بما تريده الجزائر، مصالحها والخطوط الحمراء وقد يكون ذلك، أيضاً، من خلال تأكيد طبيعة مضامين الشّراكة الاستراتيجية التي يجب أن تشير، في أولويّاتها، إلى وحدة الإدراك للتّهديدات، وأنّ التعامل مع الجوار الجيوسياسي عقيدة واحدة بمقاربة متطابقة لكل الأطراف، على غرار ما أشرنا إليه بشأن الجوار الجيوسياسي لكلّ من الجزائر وروسيا في جوارهما الجغرافي المباشر.

تلك هي الكفاءة التي على الجزائر إبرازها في إدارة الملفات في الجوار الجيوسياسي، وعلى روسيا التي وقفت في تناقض مع مصالح البلاد في الملفّات الأربعة المذكورة أن تعود إلى الإدراك الذي يخدم مصالحها في التنافسية الشّديدة في المنطقة وفي القارّة الأفريقية، عموماً، حيث إنّ التكامل في تلك المصالح أفضل من الظُّهور بمظهر من يريد تحيُّن فرص الاستيلاء على معادن السّاحل وخيراته، تمامًا مثل ما كان يقوم به الاستعمار الغربي الذي تقول موسكو إنها في تناقض تام مع ممارساته التّاريخية.

يمكن لروسيا، ارتكازًا على المصالح الجزائرية في جوارها الجيوسياسي، أن تتكامل مع مصالح الجزائر، بحيث إنها ستكون محققة لمكاسب على المستوى الطاقوي بمرجعية القدرات الجزائرية الطاقوية وقدرتها على تجسيد الخط الغازي من نيجيريا إلى المتوسّط، كذلك يمكنها أن تكون في خط واحد في العمق الجزائري الجيوسياسي، منطقة الساحل، حيث للجزائر قدرات لإدارة السلم والوساطة لتجسيد الاستقرار مع تفعيل لعبة التنافسية الدولية بما يخدم الشراكة الجزائرية الروسية. هذه هي الكفاءة وهذه النجاعة ومن دونهما ما تنبأت به الجزائر من تحوّل الهشاشة في الساحل إلى فشل، وتداعيات ذلك على التهديدات، التقليدية وغير التقليدية.