سجل أوروبا البائس

سجل أوروبا البائس

05 ديسمبر 2018
+ الخط -
على الرغم من أنه لا يمكن الحديث عن كائن اسمه أوروبا خارج حدود الجغرافيا الطبيعية، نتيجة الخلافات في المواقف بين دول الاتحاد الأوروبي، يمكن استخلاص سمات عامة للمواقف الأوروبية من قضايا التحول الديمقراطي في العالم العربي. منها أن أوروبا لم تزعم يوما (إذا استثنينا فترة حكم توني بلير الثانية 2001 - 2005) أن مهمتها نشر الديمقراطية خارج حدودها، فالخطاب السائد أوروبيا لمعظم الفترة الاستعمارية كان بشأن "تحضير" شعوب المستعمرات "غير المتحضرّة" وليس دمقرطتها. ونشهد هذا واضحا في كتابات الرحالة والمستشرقين الأوروبيين، من القرن السابع عشر إلى مطلع القرن العشرين، وإن كان التركيز يختلف بين بدايات هذه الفترة (الاهتمام بالفروق الدينية، مثل العقائد والطقوس والسلوك)، في حين أصبح يتركّز في آخرها على الاختلافات الثقافية والحضارية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ووصول الفترة الاستعمارية إلى نهايتها، ظلت الديمقراطية لا تجد لها مكانا على الأجندة الأوروبية، بسبب عاملين رئيسين، تمثل الأول في سيطرة الخوف من الاتحاد السوفييتي على كل ما عداه من اهتمامات، لذلك تم دعم أنظمة محافظة مستبدّة تشترك مع الغرب في عدائها الاتحاد السوفييتي. والثاني هو الصدام بين القوى الاستعمارية الأوروبية التي كان نجمها يوشك على الأفول والمد القومي والتحرري الذي اجتاح منطقة الشرق الأوسط من إيران إلى شمال افريقيا. إذ دعمت بريطانيا الانقلاب العسكري الذي أطاح حكومة رئيس الوزراء محمد مصدق في إيران في 1953، ووقفت، وإلى جانبها فرنسا، ضد "الثورات" التي أطاحت النخب الملكية المحافظة في مصر والعراق واليمن وليبيا. ولم تكن هذه "الثورات" سوى انقلابات عسكرية، إلا أنها جاءت في بداياتها ببرامج اقتصادية - اجتماعية تمثل مصالح شرائح شعبية واسعة.
بعد انتهاء الحرب الباردة، أضاعت أوروبا فرصتين تاريخيتين لتعزيز الديمقراطية في شرق المتوسط وجنوبه، الأولى مع انتهاء الحرب الباردة، حيث بدت الدول العربية، خصوصا التي كانت تعتمد في دعمها على الاتحاد السوفييتي، في وضع مهزوز، كان يمكن دفعها معه نحو إصلاحاتٍ سياسيةٍ فعليةٍ عبر مساعدات اقتصادية مشروطة بتعزيز حقوق الإنسان وتحقيق الانفتاح السياسي، كما حصل مع تركيا التي شجعتها طموحات الحصول على مقعد في الاتحاد الأوروبي في تعزيز الممارسات الديمقراطية. لكن الخلاف الفرنسي الألماني لعب دورا رئيسا في إضاعة هذه الفرصة. ولم تمثل مشروعاتٌ، مثل الشراكة الأورو- متوسطية والاتحاد من أجل المتوسط وغيرها، محاولاتٍ أوروبية جادّة بهذا الاتجاه، فهدفها الرئيس دمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية العربية، في إطار مشاريع السلام الغربية للمنطقة.
الفرصة الثانية مع ثورات الربيع العربي التي أخذت منها الدول الأوروبية مواقف متخاذلة، ففي تونس عرضت وزيرة الدفاع الفرنسية، ميشال إليوت ماري، على الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، المساعدة في إخماد الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية. وفي ليبيا، جاء التدخل العسكري الأوروبي مدفوعا باعتبارات اقتصادية وسياسية، خصوصا بالنسبة للرئيس الفرنسي ساركوزي الذي كشفت تحقيقاتٌ عن علاقات مالية بين حملته الانتخابية ونظام معمر القذافي الذي نصب خيمته في قلب باريس عندما زارها في 2007، واستقبله ساركوزي في الإليزيه، متناسيا ضحايا طائرة اليوتا الفرنسية التي سقطت فوق النيجر عام 1988، واتُّهم القذافي حينها بالمسؤولية عنها. وكان زعماء أوروبا أخذوا يتهافتون إلى ليبيا للفوز بجزء من كعكتها في أكبر عملية تأهيل لديكتاتور في التاريخ المعاصر، بعد أن تمت تسوياتٌ ماليةٌ وسياسيةٌ للقضايا الكبرى العالقة، بما فيها قضية لوكيربي والبرنامج النووي، وقضية الممرضات البلغاريات وطائرة اليوتا وغيرها.
في مصر، خفتت أصوات أوروبا بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح حكومة الرئيس المنتخب محمد مرسي، في مؤشر جديد على أن أوروبا، خصوصا فرنسا، تفضل حكم العسكر على حكمٍ يقوده إسلاميون، حتى لو جاءوا الى الحكم عبر الصناديق، وهو السلوك الذي تكرّس منذ إلغاء الجيش الجزائري نتائج انتخابات 1991، لكن هذا الكلام يغدو لغوا، إذا لاحظنا أن الديمقراطية الأوروبية تفشل في دمج مهاجريها، فما بالك بدمج "الآخر" وراء الحدود!