عن أوروبا وسؤال الديمقراطية

عن أوروبا وسؤال الديمقراطية

28 نوفمبر 2018
+ الخط -
على عكس الولايات المتحدة، لا تجد في الخطاب السياسي الأوروبي الكثير عن موضوع دعم الديمقراطية، خصوصا في المنطقة العربية. ما قد يعود إلى التجربة التاريخية المختلفة للطرفين عندنا. إذ ليس للولايات المتحدة ماضٍ استعماري في العالم العربي، لذلك تجدها أجرأ في الحديث عن قضايا الديمقراطية، وحتى استخدامها ذريعةً للتدخل عسكريا، كما حصل في العراق عام 2003، انطلاقا من كلام حقٍّ يُراد به باطل، وهو، بحسب وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كوندوليزا رايس، في خطاب القاهرة الشهير عام 2005، أن الاستبداد مسؤول عن إنتاج التطرّف والإرهاب، هذا الذي ضرب الولايات المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2001. أما الدول الأوروبية الكبرى، خصوصا بريطانيا وفرنسا وإلى حد أقل إسبانيا، فقد مارست أدوارا استعمارية في المنطقة العربية، ولذلك تجدها أكثر تحفظا في الحديث عن الديمقراطية لافتقادها الأرضية الأخلاقية التي تسمح لها بذلك. وربما يعود السبب أيضا إلى أن أكثر الدول الأوروبية نفسها لم تكن ديمقراطياتٍ راسخة إلى ما قبل قرن. فرنسا، مثلا، لم تترسّخ تجربتها الديمقراطية إلا بعد سقوط إمبراطوريتها الثانية أمام ألمانيا عام 1870. وألمانيا نفسها لم تبدأ حياة ديمقراطية حقيقية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، في حين تأخرت دول جنوب أوروبا (اليونان، وإسبانيا، والبرتغال) حتى سبعينات القرن العشرين.
سبب آخر ممكن لغياب الحماسة للديمقراطية في الخطاب السياسي الأوروبي تجاه المنطقة العربية هو أن النخب الأوروبية الحاكمة ترى أن وضع الممارسة الديمقراطية شرطا للتعامل مع الآخرين ينعكس سلبا على حظوظها الانتخابية، بمعنى أن حياتهم الديمقراطية تعتمد إلى حد ما على لا ديمقراطية الآخرين. ولذلك لا يميلون للمخاطرة بمصالحهم الاقتصادية والتجارية عبر الخوض في قضايا الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان عربيا، مثلا، بدليل الحذر الفرنسي والبريطاني في التعامل مع قضية اغتيال جمال خاشقجي، وعندما علقت ألمانيا مبيعات الأسلحة للسعودية بسبب الجريمة إنما إلى شهر يناير/ كانون الثاني المقبل. أما العامل الذي لا يظهر على السطح، لكنه يبقى في خلفية التفكير الأوروبي، فهو مرتبطٌ بالنظرة الاستشراقية الغربية التقليدية التي تعتقد بوجود تناقضٍ جوهريٍّ بين الإسلام والديمقراطية، وأن التيارات الإسلامية، حتى لو قبلت بالعملية الانتخابية (وليس بالديمقراطية الليبرالية) فإنها تقبل بها طريقا للوصول إلى السلطة ولكي تبقي فيها (one man, one vote, once). لماذا إذا تشجيع الديموقراطية إذا كانت تؤدي إلى وصول تيارات دينية إلى السلطة في العالم العربي؟
طبعا من غير الممكن منهجيا الحديث عن كائن سياسي اسمه أوروبا، ليس فقط لعدم وجود سياسة خارجية أوروبية موحدة، بل أيضًأ لوجود تنافس أوروبي شديد في بعض الساحات، كالذي بين فرنسا وإيطاليا في ليبيا اليوم، حيث يدعم البلدان أطرافا مختلفة في الصراع، لغايات عديدة ليس بينها إقامة دولة ديمقراطية. وهناك اليوم فهم مختلف لماهية الديمقراطية نفسها حتى في أوروبا، خصوصا مع صعود ما تسمى الديمقراطية غير الليبرالية، حيث توجد عملية انتخابية وتنافس وتعدّدية، إنما تغيب عنها القيم الليبرالية، مثل حقوق الإنسان والحريات العامة. ثم إن هناك مفارقة الحديث عن ضرورة قيام دعم أوروبي للديمقراطية في المنطقة العربية في وقت ينحسر فيه المد الديمقراطي عالميا، وتصعد ممارسات غير ديمقراطية في أوروبا، مع تنامي قوة اليمينيْن، القومي والشعبوي، وتزايد الإعجاب بنظرية الرجل القوي من فلاديمير بوتين في روسيا إلى دونالد ترامب في أميركا، وبينهما فكتور أوربان في قلب أوروبا.
لكن هذا كله لا يعفي من القول إن لأوروبا مصلحة حقيقية في دمقرطة المنطقة العربية، إذ أثبتت ثورات الربيع العربي، خصوصا في سورية، مدى ارتباط أمن أوروبا ورخائها بأمن دول جنوب المتوسط ورخائها، فالأنظمة الاستبدادية لم تعد ضمانةً للاستقرار، كما فقدت القدرة على أداء دورها حارس أمن للبوابات الأوروبية لمنع تدفق اللاجئين أو المتطرّفين. لقد دفعت أوروبا ثمنا باهظا لهذه المقاربة، مع انتقال نحو مليون لاجئ إليها خلال الأعوام الأخيرة، ما أدّى إلى صعود اليمين القومي والشعبوي، وتهديد الاتحاد الأوروبي بالتفكّك. لذلك وجب التفكير في مقاربة جديدة.