شتاء عربي أم عالمي؟

شتاء عربي أم عالمي؟

07 نوفمبر 2018
+ الخط -
نشرت مجلة أتلانتيك، الأميركية، قبل يومين، مقالا بعنوان "الشتاء العربي قادم"، تناول صعود الدكتاتوريات في العالم العربي، بعد فشل ثورات 2011 في شقّ طريقها نحو الديموقراطية. وتحت شعار "الاستبداد سيئ لكن الفوضى أسوأ"، توقّعت المجلة أن تذهب الديكتاتوريات العربية بعيدا في توسّل القمع لإحكام سيطرتها على مجتمعاتها، في ضوء عجزها عن تقديم حلول لأغلب المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، والتي كانت في الأصل سببًا للثورات التي اندلعت خلال العقد الفائت، ما يُنذر، بحسب "أتلانتيك"، بشتاءٍ عربي قاسٍ، وربما غير مسبوق، يعصف بالمنطقة في المرحلة المقبلة.
الاستبداد العائد، كما تبيّن في حقبة ما بعد الربيع العربي، أسوأ وأشد ظلمة من سلفه البائد (قارن مثلا نظامي حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي في مصر)، لكن ما يغفل بعضُهم ملاحظته، بمن فيهم المجلة الأميركية، أن الفشل العربي وعودة الديكتاتوريات لا يجري في فراغ، بل يأتي في سياقٍ عالمي، تنحسر فيه الديموقراطيات، وتصعد فيه النزعات اليمينية (القومية والشعبوية) المعادية للديموقراطية، وتزداد معها قوى الاستبداد العالمي قوةً وسطوة.
وكما أن الاستبداد العائد عربيا أسوأ من سلفه، فإن قوى الاستبداد الدولي الصاعد تقدّم نسخةً أشد مراسًا من سابقتها، هي نتاج المزاوجة بين نظم سياسيةٍ شموليةٍ ونظم اقتصادية واجتماعية رأسمالية أو ليبرالية. يجعل هذا الأمر منها نموذجًا أشدّ خطورةً على الديموقراطية من النظم الاستبدادية الشمولية التقليدية (مثل الاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية)، لماذا؟ لأن الأخيرة كانت تفتقر إلى الموارد المالية اللازمة لإنتاج نموذج، أو نظام اقتصادي قادر على الاستمرار ومقارعة الرأسمالية الليبرالية. لذلك كانت هذه النظم تعتمد، في حكمها، على قبضةٍ أمنيةٍ تختفي وراء شعارات أيديولوجية جوفاء عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. في ظل الاستبداد المعاصر المتلبرل اقتصاديًا، يمكن للناس أن تحيا في ظل أنظمةٍ سياسية شمولية، ولكن يمكن لها أيضًا أن تتمتع بنمط حياة استهلاكي، وتعدّدية اقتصادية تبز نظيراتها في المجتمعات الرأسمالية الغربية، كما يمكن لها أن تضخّ أموالا كثيرة في عروق أنظمة سياسية تشبهها.
من هذه الزاوية، ينبغي النظر إلى الاستبداد العربي العائد باعتباره امتدادا طرفيا لاستبداد عالمي هجين، يطل علينا برأسين: اقتصادي مركزه الصين، وعسكري - سياسي مركزه روسيا. ويستدعي هذا الأمر النظر إلى ما يحصل في المنطقة العربية باعتباره جزءًا من معركة عالمية كبرى، تمتد عبر القارات، وتجري في كل الثقافات، وتتجسّد في شكل صراع أيديولوجي وقيمي كبير، تدور رحاه بين قوى الاستبداد وقوى الحرية في العالم، لا يقل أهميةً في معناه ومغزاه واتساعه عن الصراع الذي ساد في فترة الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية. وإذا كانت قوى الاستبداد، على ما يبدو بينها من تناقضاتٍ، تشدّ أزر بعضها، وتقف صفا واحدا في وجه التغيير الديموقراطي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ينبغي على القوى الديموقراطية، في المقابل، أن تتضامن في العمل من أجل قضية الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
تلقت القوى الديموقراطية، الأسبوع الماضي، ضربتين موجعتين، تُضافان إلى الضربات التي بدأت بفشل الربيع العربي: فوز اليميني المتطرّف جايير بولسونارو برئاسة البرازيل (ثامن اقتصاد في العالم). وإعلان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (ينظر إليها على نطاق واسع، بعد وصول ترامب إلى الحكم في أميركا، زعيمةً للعالم الديموقراطي) تخليها عن قيادة حزبها، وانسحابها من العمل السياسي ابتداء من عام 2021، في ضوء النكسات الانتخابية المتتالية لحزبها أمام اليمين المتطرّف. الحدثان، وإن بديا غير مرتبطيْن ظاهريا، فإن نظرةً أكثر تفحصا توضح مدى الخطر الذي بات يحيق بقيم الحرية والديموقراطية في العالم، بعد أن باتت خمسة من بين الاقتصادات العشر الكبرى فيه تحكُمها قوى غير ديموقراطية، أو قوى يمينية ذات ميول غير ديموقراطية. سوف تثبت الأيام فداحة خطأ القوى الديموقراطية الغربية، وفي مقدمها محدود الأفق باراك أوباما، بتخليها عن ثورات الربيع العربي، والتي مثلت نقطة تحوّل في ميزان القوى العالمي لصالح نظام الثنائي الهجين في موسكو وبكين، وليبدأ معها شتاءٌ قاس طويل، تعم آثاره العالم.
AA8F4D7D-04C2-4B96-A100-C49FC89BAEBA
مروان قبلان

كاتب وباحث سوري