في مفهوم الشعبوية

في مفهوم الشعبوية

22 ديسمبر 2018
+ الخط -
تكشف أكثرية المراجع التي اهتمت بالشعبوية، مفهوما وظاهرة اجتماعية، وأحدثها إصدار "ما الشعبوية" لمؤلفه فيرنر مولر، (ترجمة رشيد بوطيب، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2017) عن ضعف مفاهيمي غير عادي لهذا المصطلح. هناك من يقول إنه ليس ممكنا تقديم تعريف نهائي للشعبوية، ذلك أنه في الأساس يصدق على الشعبوية ما سبق أن أكده بيتر إلترا في شأن القومية: "لا توجد الشعبوية لكن توجد فقط أشكال تمظهراتها".
أما هانس يورغن لوله الذي كرس حيزا مهما من اهتماماته لدراسة ظاهرة الشعبوية في أميركا اللاتينية، فيؤكد هو الآخر أن مفهوم الشعبوية غير دقيق، وغامض وانطباعي، لكي يخلص بعدها إلى أطروحته "أساس كل الإغراءات الشعبوية للسياسة الديمقراطية يكمن في نواة الديمقراطية المعاصرة، وأعني المساواة في التمثيل، فالسياسة التي تحتاج موافقة شعبية واسعة، تميل إلى أن تصبح شعبوية".
يوصلنا هذا إلى سؤال: هل يعني ذلك استحالة إيجاد مفهوم محدد للشعبوية، أم إن الأمر يتعلق فقط بتمظهراتها؟ وبالعودة إلى صاحب كتاب "ما الشعبوية؟"، فهو يرى أن نقد النخبة ضروري بالنسبة للشعبوية، لكنه ليس معيارا كافيا لتحديد المفهوم. وبلغة أخرى، القول إن جوهر الشعبوية يكمن في الموقف المعارض للمؤسسة يظل ناقصا، إذ علاوة على معاداة النخبة، يجب إضافة عنصر آخر هو معاداة التعدد.. وفي النهاية، يرى يان فيرنر مولر أن ما يمثل جوهر كل الشعبويين يكمن في التعبير عنه تقريبا كالآتي: "نحن، ونحن فقط من يمثل الشعب حقا".
في تنزيل هذه المفاهيم النظرية للشعبوية، إلى أي مدى يمكن اعتبار احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، والتي تعيش فرنسا على وقعها منذ أسابيع، حركات شعبوية، خصوصا وقد زاد غياب المنظمات السياسية والأحزاب التقليدية والجديدة من تعقيدات هذه الظاهرة، وصعوبة فهم مرجعياتها الفكرية والإيديولوجية، فاعتبرها محللون سياسيون جزءا من الحركات الشعبوية القريبة من أقصى اليمين والمعادية للديمقراطية والمنظومة الليبرالية والنخب التقليدية، في حين رأى آخرون أن هذه الحركات مجرد تعبيرات غضب بعض الشرائح المجتمعية عن بعض القرارات الحكومية، ولا ترتقي إلى حركة سياسية واضحة المعالم.
يرى المفكر التونسي حكيم بن حمودة أن ظاهرة الشعبوية الأوروبية، وفي فرنسا تحديدا، 
وإحدى تمظهراتها حركة أصحاب السترات الصفراء، قد فتحت مرحلة سياسية جديدة في الواقع الفرنسي، فقد "أكدت دراسات عديدة منذ سنوات أن فرنسا والبلدان الديمقراطية دخلت فترة تاريخية جديدة ما بعد حداثية، تنتفي فيها الصراعات والخلافات الإيديولوجية"، فالسياسة بمعناها الحداثي، أي البرامج والرؤى الكبرى التي تسعى إلى تغيير المجتمعات، ودفعها نحو الأفضل، والتقدم انتهت فاتحة مرحلة لما بعد السياسة.
عبرت عن هذه المنطلقات دراسات عديدة حديثة، وخصوصا التي بشرت بمرحلة ما بعد الحداثة، أو فترة الديمقراطية السائلة (الهادئة) التي لفظت الشوق الثوري، وفتحت مرحلة عودة الصراع الاجتماعي والسياسي داخل مجتمعات الديمقراطيات العريقة. ويبدو هذا التشخيص هو الآخر معقدا، فالمرء لا يتحول أوتوماتيكيا إلى كائن يلفظ السياسة، ليشك في كل شيء، ويكذّبه، بوجود خط فاصل بين المنظومة المسؤولة (الديمقراطية مثلا) وغير المسؤولة، ليصبح كائنا منفلتا يحركه "الغضب" و"الغل" و"المخاوف" من السقوط الاجتماعي: من الطبقة المتوسطة والفقيرة إلى الشعبوية.
سيقدّم الشعبويون دائما، كما تقول أغلب الأطروحات، مطلبيات غير معقدة، قد يدافعون عن سلوك اجتماعي غير عقلاني، فالشعبوية بسيطة، كما يقول رالف دارندورف، لكن الديمقراطية في المقابل معقدة.
وفي ما يخص فوبيا السقوط الاجتماعي الذي قد يكون الدافع الأساس اللاواعي للحركات الشعبوية (أصحاب السترات الصفراء نموذجا)، فليس ما يهددهم خطر السقوط الاجتماعي. هم من يصوتون دائما على الأحزاب الشعبوية، بل قد يكونون أيضا مواطنين متسلقين أو اجتماعيين داروينيين، ممن قد يستسلمون لتصوراتٍ من قبيل "لقد حقق الآخر نجاحا فلماذا لم يتحقق ذلك لنا"، أو "لقد حققت أهدافي بعرق الجبين، فلماذا علي أن أقتسم ما أملك مع من لا ينتمي إلى الشعب؟".
وتدل الحالة الفرنسية على ذلك، ولعل الخطاب الفوقي المتعالي للنخبة الفرنسية السياسية، وفي مقدمتها رئيس الجمهورية، إيمانويل ماكرون، كان من العوامل الأساسية لدفع أصحاب السترات الصفراء إلى الشارع، وبالتالي للتمظهرات الشعبوية.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي