التونسيون وسؤال الهوية

التونسيون وسؤال الهوية

12 ديسمبر 2018
+ الخط -
أصبح التونسيون، منذ ثورة يناير 2011، سكارى حتى الثمالة بمسألة الهوية، فهم بحاجة ماسة إلى رموز من الماضي، لتدعيم ما يقومون به في الحاضر، هذا العطش القاسي لمسألة الهوية واستحضار الماضي يتطلب كما قال الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران: "إحياء الذاكرة باستمرار، لأن ذلك من المتطلبات الحيوية للحاضر، علما أن إحياء الذاكرة لا يتمثل فقط في استرجاع ذكريات الماضي، وإنما في إعادة تسليط الضوء على ذلك الماضي، اعتمادا على تجربة الحاضر وانطلاقا منها".
وفي كتابه المهم "كيف صار التونسيون تونسيين" يعود الهادي التيمومي إلى الحفر في أسباب هذا العطش الحاد للهوية وجذوره، ويذهب إلى القول: "ليست الهوية التونسية إفرازا لدولة الاستقلال التي قامت منذ 1956، وإنما هي واقع أبعد غورا وأعمق جذورا، فليس من ذهنية جماعية تحدث فجأة، والمشهد الهوياتي التونسي الحالي يعكس في تضاعيفه تاريخا ثري المضامين، سميك التراكمات متشعب التضاريس". ويمضي التيمومي قائلا: "تونس تشهد منذ 2014 جوعا للانتماء، وركضا مهووسا وراء الهوية، أي وراء تلك النظرة التي تسعى كل مجموعة بشرية لكي تنعت بها من قبل الآخرين".

المعضلة كما تتشكل اليوم، وإن بدا استحضار الماضي ورموزه أمرا طبيعيا في حياة الشعوب، تكمن في أن أي تلميح اليوم، ولو بسيط، إلى أيٍّ من محطات التاريخ التونسي، يتحول فجأة إلى صراع بين التونسي الذي يعتبر نفسه تونسيا، والتونسي الذي يعتبر نفسه عربيا من تونس، والتونسي الذي يعتبر نفسه مسلما من تونس، والتونسي الذي يعتبر نفسه أمازيغيا... وفي خضم هذه التجاذبات، ينسى التونسيون، في أغلب الأحيان، أن الذين بنوا تونس ليسوا فقط الذين تتحدّث عنهم الكتب المدرسية والمرجعيات التاريخية، بل هنالك ملايين الشخصيات الصامتة والمغمورة نحتت على طريقتها روح تونس وهويتها الحميمية.
أبناء تونس المغمورون أو شبه المغمورين يمثلون كنوزا من الخلق والتجديد، تختفي وراء نشاطات حياة يومية يمارسها الفلاح والحرفي والتاجر ومدون التراث اللامادي والمغني والطاهي والمتطوع "للجهاد" ضد الاستعمار الفرنسي. وتوجد كذلك الطالبة التي تمتلكها الغيرة يوم 7 مارس/ آذار 2011 على العلم التونسي، فرفعته في مدخل كلية الآداب في منوبة غصبا عن سلفي إسلامي متنكر لوطنه، ومصر على رفع راية "دولة الخلافة الإسلامية" السوداء.
التونسي هو وريث هذه الهوية الجمعية التي نسجها المشهورون والمغمورون، وليست تونس هبة موقعها الإستراتيجي في قلب الأزرق الكبير، وإنما هي هبة الإنسان التونسي الذي كابر منذ فجر التاريخ وجاهد وكافح، وعمل وكد لكي يخرج هذا البلد في أبهى صورة ويبوئونه مكانة لائقة بين الشعوب.
نلتقي هنا مع التيمومي، ومع ما جاء في كتابه المهم، ومع غيره من الباحثين والمولعين بدراسة سؤال الهوية التونسية، على غرار منصف وناس، صاحب كتاب "الشخصية القاعدية التونسية"، وسعيد بحيرة في كتابه "قراءة أخرى، في الهوية التونسية"، والذي يقدم قراءة تأليفية للهوية التونسية، مركزا على دور الإنسان، ساكن هذه البلاد ومعمرها وقطب نواتها الصلبة، فتونس اليوم، كما يراها سعيد بحيرة، "تحمل هوية مركبة انتقاها التونسيون، بعد أكثر من ثلاثة آلآف سنة من الوجود التاريخي، وبعد عشرات الآلاف من السنين من الوجود الفعلي. وعبر هذا الامتداد الزمني الطويل، تأسس المخزون الحضاري التونسي، بمكوناتها المختلفة".

يوصلنا هذا إلى تأكيد أن هوية التونسيين اليوم هي نتاج مهجن ومعاد التهجين لآلاف المصاهرات المتنافرة: من البربر، والعرب، والأتراك، والأوروبيين... والعبقري في المسألة أن تونس كانت دائما وستظل قادرةً على صهر كل هذه العناصر في بوتقتها، فتونس بجسمها الصغير تبدو وكأنها كائن ضعيف، إلا أنها بإنجازاتها الحضارية كائن قوي، سيطر عليها الغزاة آمادا طويلة من كل حدب وصوب، بقوة أسلحتهم، لكنها سيطرت عليهم بقوة شخصيتها الحضارية. ويذهب المؤرخون كافة إلى أن أغلب غزاة تونس"تتونسوا" وذابوا فيها، بل وأصبحوا مدافعين شرسين عنها، فتونس لم تفن أبدا في غزاتها، بل هم الذين ذابوا فيها.
وفي المحصلة، يمكن القول إن طرح سؤال الهوية التونسية اليوم يتحتم على طارحيه أن ينأوا به عن كل توظيف إيديولوجي فج.. لقد استقبلت الأرض التونسية حضارات عديدة غازية أو "فاتحة" من الشرق والغرب، لكن اللقاء بين حضارتيها البربرية والعربية الإسلامية هو الأكثر توفيقا بين كل اللقاءات التي فرضت عليها منذ وصول الفينيقيين إليها قبل 2828 عاما، لكن القول بأهمية العروبة والإسلام في تاريخها لا يمنعها من أن تحيي في نفسها تاريخها السالف، لأنها خلاصة لكل تاريخها.
سؤال الهوية في الراهن التونسي يفيض طبعا عن هذا المقال، وسيظل الحفر فيه أحد اهتمامات النخبة التونسية.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي